«الحب في المنفى» تاريخ وفراق واغتراب

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تُعد رواية «الحب في المنفى» للروائي بهاء طاهر إحدى العلامات المميزة في مسيرته الأدبية، وصنفت ضمن قائمة أفضل مئة رواية عربية، وقال عنها الناقد الدكتور شكري عياد إنها «نموذج جديد للرواية الواقعية»، وهي تمثل مرحلة الغربة التي عاشها بهاء طاهر بعد فصله من عمله في الإذاعة المصرية في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. إذ اتجه إلى مدينة جنيف بسويسرا؛ ولهذا يمكننا القول، إن مشاعر طاهر في الغربة تجسدت في هذه الرواية، التي سيجد القارئ فيها مشاعر مختلفة ومتناقضة ما بين حب وفراق وغدر وخيانة وأحداث تاريخية مكتوبة ببراعة.

مذابح وشهادة

تدور الرواية في بداية الثمانينيات من القرن الفائت، زمن اجتياح إسرائيل لبيروت ومذابح صابرا وشاتيلا، وفي الوقت نفسه: تحيّز الغرب لإسرائيل وممارساتها القمعية الفظيعة. واستطاع طاهر أن يمزج روايته الخيالية ببعض الوقائع والأحداث الحقيقية، كشهادات حقيقية عن هذه المذابح التي غض العالم الغربي البصر عنها وعجز العرب عن التحرك لطرد الصهاينة، كذلك تعرج الرواية على انتهاك حقوق الإنسان في أميركا الجنوبية، بالتحديد في شيلي. وبشكل عام، يمكننا القول، إن الرواية تتحرك في فضاء سياسي عبر شخصياتها المختلفة، وهي تتحدث عن جيل أخفق في تحقيق أحلامه، يشعر بالغربة والاغتراب عن ذاته، وعن وطنه.

استطاع بهاء طاهر، في الرواية، وبمهارة أدبية، أن يحبك الصراع الداخلي في نفوس أبطاله ويجعل القارئ يشاركهم هذا الصراع المشتعل؛ إذ إنها تفرض على القارئ أن يكون يقظا ويجيب بنفسه عن الكثير من الأسئلة التي طرحها كاتبها في روايته الموجعة هذه. وجاءت الرواية مزيجا من السرد الذي يقوم به الراوي والبوح الذي نجد حضوره طاغيا في الرواية بسبب وجود قاسم نفسي مشترك بين الشخصيات، وهو الإحساس بالاغتراب؛ فتبوح بخيباتها وفشلها وإحباطها وعجزها. وكذلك الاسترجاعات التي تعد بمثابة نوع من الحنين إلى الوطن، وتظهر خاصة في أدب الاغتراب.

القضية

تنتمي «الحب في المنفى» إلى أدب الاغتراب، الراوي فيها جاء عبر ضمير المتكلم «أنا»، متمثلًا في الشخصية الرئيسية في الرواية، فهو السارد، الممثل للحقبة الناصرية بكل ما تحمله من إيجابيات وسلبيات، ويرى أنه بعد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر تبدلت الأحوال. هذا السارد البطل الذي لم يفصح بهاء طاهر عن اسمه طوال الرواية، هو صحافي «قاهري» ناصري يعيش على أطلال حكم ناصر وموالٍ له، تأتيه الضربات القاصمة تباعا ويواجه كثيرا من المشاكل؛ فهو شخصية مركزية ويمثل إنسانا أضاع ما كان يمتلكه ولم يعثر على ما يريد أبدا، وتتصاعد أحداث الرواية ويتشابك أشخاصها وتصل إلى نهاية حزينة وموجعة غير متوقعة.

استطاع بهاء طاهر في روايته أن يستعير أشكالا متعددة من تقنيات الشكل الروائي، فقسم الرواية إلى أحد عشر فصلًا؛ أطولها الفصلان السادس والحادي عشر، كما يأخذ كل فصل عنوانا مستقلا بذاته، ومع وجود هذه العناوين الفرعية - التي تشير ظاهريا إلى استقلال الوحدات السردية- في الفصول؛ إلا أن العناصر السردية الأخرى ممتدة داخل الوحدات جميعها دون انقطاع، مما يشير إلى وحدة النص كبناء متكامل.

شتات

يعيش بطل الرواية حياة مشتتة، ففي البداية انهارت علاقته بزوجته تزامنا مع انتهاء حكم عبدالناصر، فيخسر عائلته بعد أن ينفصل عن زوجته، ويقرر ابناه العيش مع الأم. كما تأتيه الضربة الأخرى نتيجة ميوله السياسية الموالية لعبدالناصر، وبالتالي كان لا بد من التخلص منه بعد ثورة التصحيح، فينفى خارج مصر إلى أحد البلدان الأوروبية، والذي لم يذكر بهاء طاهر اسمه، لكننا نفهم من سياق الأحداث أنه «سويسرا»، ذلك للعمل كمراسل لصحيفته في القاهرة التي لم تعد تنشر له شيئا.

طوق نجاة

وفي الغربة يتعرف على «بريجيت» المرشدة السياحية النمساوية المنفية بإرادتها إلى سويسرا لتهرب من ماضٍ يحيط بها في موطنها الأصلي، وتنشأ بين الاثنين علاقة حب؛ فيعتبرها البطل طوق النجاة الذي يهرب به من السياسة التي شتتته وضيعته بعد أن بلغ منتصف الخمسين من عمره، وهنا يشير طاهر إلى علاقة الشرق بالغرب؛ إلا أن الألم بداخله يتسع بفراق بريجيت له في نهاية الرواية.

صدمة

كذلك نتبين صدمة البطل في ابنه «خالد» الذي يقرر مرة واحدة أن لعب «الشطرنج» حرام، بعد أن كان أحد أبطاله ومشاركا في بطولة العالم لهذه اللعبة، لكنه ينحرف عن مساره ويقرر عدم المشاركة في البطولة ويتحول إلى الوجه الديني المتشدد في الرواية؛ وهذا يوضح أن البطل يعيش شتاتا داخليا على كل المستويات.

هل؟

تحيلنا الرواية إلى حيثيات صراع داخلي اختبره غالبية أفراد المجتمعات العربية، عقب الخيبات والانكسارات في منتصف القرن الفائت وفي ما بعده، وكأن البطل تجسيد لجميعنا وهو يسأل عن: آماله.. وأحلامه.. ومستقبله. وعن الجمال والخلاص من ربقة العدوان والتنكيل والانتهاكات الإسرائيلية بحق الأمة العربية، وهل هذا ما سيكون مصير الأجيال المقبلة بعدنا؟

ضياع

جاء المكان في الرواية مجرد مساحة، إذ لم يذكر بهاء طاهر اسمه؛ وذلك كدليل على أن المنفى منفى وأن الاغتراب ضياع، فلا يهم أن يكون هذا المكان سويسرا أو غيره، بل هو مجرد بقعة أرضية يعيش فوقها المهزوم ويصارع فيه الحياة، محاولًا بما بقى لديه من طاقة أن يعيش.

 

Email