«العذراء والموت» جدليــة الحــزن والفــــرح

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

«يمكنكم سماع صوت الشتاء القاسي في عملي هذا.. مع أنكم ترون أزهار الربيع في الخارج». تلك جملة مأساوية جداً قالها المؤلف النمساوي فرانز شوبرت، في وصفه عمله العبقري الرباعية الوترية رقم 14، المكتوبة في عام 1824، والمعنونة بعد موته باسم «العذراء والموت». مشاعر متناقضة عايشها شوبرت بعد تعرضه للعدوى بمرض الزهري عام 1823، إذ أحس بأنه مطارد من القدر، وأن الموت وشيك.

وبدأ شوبرت بكتابة رباعيته الوترية «العذراء والموت» لآلتي كمان وآلة فيولا وآلة تشيلو عام 1823، بعد خروجه من المستشفى، حيث كان يتلقى العلاج، ولكنه خرج منهك الجسم والروح، لأنه شعر بأنه ميت لا محالة، فأتت لغة الرباعية مليئة بالغضب والكآبة والحزن، معبرة عن حالة اليأس والاستسلام التي كان المؤلف يعانيها.

مؤلف عبقري

ولد فرانز شوبرت عام 1797 بالقرب من فينّـا، إبان نهاية العصر الكلاسيكي في الموسيقى وبداية العصر الرومانسي، وشرع في تأليف الموسيقى حسب تقاليد المؤلفين الكلاسيكيين هايدن وموتسارت، ولكنه كان معجباً بشخصية وفن العبقري المجدد بتهوفن، فجمع في موسيقاه بين العنصر البطولي التراجيدي عند بتهوفن، وبين العنصر الغنائي التقليدي الشفاف عند موزارت.

وتوفي شوبرت عام 1828، عن واحد وثلاثين عاماً فقط، بعد أن عانى كثيراً من الأمراض التي ألمت به في سنواته الأخيرة، ولكنه، مقارنة بعمره القصير، ترك إنتاجاً موسيقياً ضخماً، إذ كتب نحو 600 أغنية في قالب الليدر.. ليتسيد عرش هذا القالب، وتسع سيمفونيات أشهرها الثامنة «غير المكتملة» والتاسعة المعروفة بـ«الكبيرة»، وعدداً كبيراً من سوناتات البيانو. إضافة إلى الكثير من الرباعيات الوترية، وأشهرها: «روسموند» ورباعية «العذراء والموت».

وجهاً لوجه

يبدأ شوبرت الحركة الأولى في عمله «وجهاً لوجه مع ملاك الموت»، بتحديد الركائز التي سيعتمد عليها في كل الحركة، فتكون البداية مع لحن درامي صارم قوي الصوت والوقع تؤديه الآلات الوترية الأربع، حسب مجالها الصوتي، وداخل هذا اللحن نلحظ قيمة الثلاثية الإيقاعية التي اعتمدها شوبرت كواحدة من الركائز التي لها تأثير كبير في إبقاء جو من التوتر والرهبة.

بعد ذلك اللحن، يعم هدوء غنائي يشبه التساؤل أو الاستعطاف. ولكن الثلاثيات الإيقاعية لا تلبث أن تؤجج الموسيقى في توتر درامي ثم في توتر غنائي يقودنا إلى العودة للحن الأول الصارم، كناية عن الموت الذي ينحسر ليظهر اللحن الغنائي الثاني المتفائل الذي يمثل الفتاة التي يبعث لحنها الغبطة، مع بعض الانحرافات الكئيبة التي تعبر عن مخاوفها الداخلية.

وفي قسم التفاعل، نرى شوبرت يتلاعب باللحن الثاني. فهو تارة هادئ غنائي وتارة قاس في دراميته التي يخيل إليك أنها حوار داخلي بين العذراء والموت.

تغيير

سـُميت هذه الرباعية تيمناً باسم الحركة الثانية التي كتبها شوبرت سابقاً كأغنية. ثم استخدم لحنها وأنشأ خمس تنويعات على هذا اللحن، خلال سياق هذه الحركة. وأتت تكوينة اللحن الأساسي أشبه ما تكون بخطوات مارش الموت، مع ملاحظة أن المؤلف احتفظ بهندسة هذا اللحن مع تغيير في المزاج خلال كل متنوعة.

رقص ساحر

يستطيع الباحث في رباعيات شوبرت الوترية، ملاحظة تفضيل المؤلف لتصميم وهندسة رباعيات الفترة الكلاسيكية، وهو ما يتبدى بجلاء في الحركة الثالثة. فحركة السكيرتزو هذه تحمل عنواناً وتفاصيل موسيقية تمثل تطلعات الفترة الرومانسية..

وفي القسم الأول نجد أنفسنا أمام جدال موسيقي درامي الملامح يتجلى في رقصة بين الموت وقفزات الفتاة المسكينة التي تحاول التملص من قبضته، ونجد اللحن الأول قوياً هادراً فيه الكثير من التكسيرات الإيقاعية، إذ يريد المؤلف فيه إظهار ما يعتمل داخل روحه المعذبة من هواجس وتخوفات من أفكار الموت.

ثم يقدم شوبرت نقيضاً لحنياً فيه رقة العذراء، التي تحاول التهرب من سطوة الموت الذي لا يتعب من محاولة إغوائها نحو عالمه. القسم الثاني من الحركة، وهو التريو، حمل هدوء وجمال ورقة الألحان الشوبرتية، حيث يغني الكمان الأول لحناً دافئاً كذكرى عن الأيام الهانئة مع انحناءات بسيطة حزينة يعود بعدها الموت إلى رقصته الشريرة، ليقول إنه صاحب الصوت الأقوى.

صراع

يقدم شوبرت في الحركة الختامية: الرابعة، المكونة من عدة أقسام، أولها رقصة تارنتيلا إيطالية نارية سريعة، ذات إيقاع حاد أعرج يزيد من وتيرة الدرامية الصدامية، وتعود للظهور تباعاً بعد نهاية كل قسم جديد. وعقب انحسار اللحن الأساسي، يبدأ القسم الثاني بلحن قوي حاسم يشبه في تكوينه ألحان الجوقات، تؤديه الآلات الأربعة في البداية، ثم يُعطى الدور للكمان الأول لمتابعة اللحن.

بينما تقوم الآلات الباقية ببناء سلسلة عنكبوتية تصبح بمثابة أرضية للكمان الأول الذي ما يلبث أن يختفي ليعود لحن رقصة الموت الأول من جديد. أما القسم الثالث فعبارة عن دوامات صوتية تفقدك الإحساس بإيقاع الموسيقى لصالح الإحساس بالرهبة من سيطرة فكرة الموت القاسية التي تقلق المؤلف.

ويقطعها بضربات حادة في محاولة للتغلب على دوامات الرهبة التي تعود للهجوم مجدداً، إلى أن يعود اللحن الأساسي ليسافر بنا إلى الإيقاع المسعور اللاهث الذي يقود لظهور الخاتمة الملتهبة، فنسمع دوامات جديدة متلاحقة أكثر فأكثر، تدفعنا إلى النهاية القاسية المأساوية.

في السينما

1994

استخدم المخرج البولندي رومان بولانسكي، موسيقى هذه الرباعية بشكل لافت للنظر، في فيلمه «العذراء والموت». وكان لها دور درامي حساس في توثيق حالة الخوف والقسوة والضعف عند الإنسان.

1996

المخرجة النيوزيلاندية جاين كامبيون في فيلمها «بورتريه سيدة»، وظفت موسيقى شوبرت هذه، بصورة فائقة الذكاء، حتى غدت الموسيقى مرآة حقيقية تترجم بشاعرية أفعال شخصيات الفيلم.

في الفنون الجميلة

1900

قدمت الرسامة النمساوية الإنجليزية ماريان ستوكس، انطباعها عن رباعية شوبرت، فصورت الفتاة الشابة خائفة من الموت الذي يظهر ببرود قاس ومن دون شفقة.

1916

الرسام النمساوي إيغون شيلي، كان له فهم خاص مثير للاهتمام لموسيقى هذا العمل. إذ صور في لوحته عام 1916، الموت مخلوقاً يشعر بالرأفة والشفقة على الفتاة اليافعة المسكينة.

 

Ⅶ «رباعية» كتبها شوبرت عام 1824 اكتسبت اسمها الحالي بعد وفاته

Ⅶعمل يعكس خوف مؤلفه من الموت بعد مرضه سنة 1823

Ⅶ يتعالى الغناء إلى أن يبلغ الذروة ثم يتلاشى بهدوء وسط زخرفة الكمان

Email