«اليد» رواية أميركا التغيير والحداثة والتحرر

ت + ت - الحجم الطبيعي

تقدم رواية «اليد» لمؤلفها جورج سيمنون، وصفاً لأميركا في مرحلة التغيير، يوم كان عالم الضواحي المخفور بحنكة مؤلفين كبار من أمثال ريتشارد ياتس وسلوان ويلسون وباتريسيا هايسميث، على وشك الاستسلام لأسلوب حياة أكثر حداثةً وتحرراً من الناحية النظرية، ولو على قدر موازٍ لقدر سابقه.

وإنه لمن خصائص سيمنون، وهو المرتاب بغالبية الأشياء عدا كتاباته، أن يشكك بتحقيق التحرر الحسي كل ما يعد به، إلا أن الخاصية الأكثر التصاقاً به تنحصر بوجوده في المكان المناسب، كما كان في فرنسا وإفريقيا قبل الحرب، وفي الوقت المناسب مجهزاً بعبقرية الصحافي الهادئة لقطف الحدث وبلورة اللحظة. الرواية كاد يطويها النسيان.

وقد صدرت عام 1968. وجاء إلهام اقتباس المسرحية المستقاة من أحداث الرواية مبنياً على الاعتقاد بوجود شيء من الندرة والتشويق الفنيَّين متولد عن اجتماع الإحساس الأوروبي والأخلاقيات الأميركية.

لا إجابات

يرفض جورج سيمنون بشكل ملفت وفي كل الأوقات إصدار الأحكام بحق أي كان، حيث لا تعثر في أعماله على كهنة، كما يقول، لكنه يملك قوة تركيز مختلسي النظر، إذ يصف بخبرة الصحافي السابق البلدان من قنوات مياهها أو سكك حديدها لاعتقاده بأنه من تلك الزاوية يمكن النظر إلى خلفيات حياة الناس «فلا تنخدعن بالواجهة».

ولا يحرص سيمنون على إضفاء أي طابع سياسي، ديني، تاريخي، وفلسفي على حوارات الشخصيات وأفكارهم، بل إن رتابة أسلوبه النثري المتجمد ومفرداته الأساسية المكشوفة تولّد إحساساً مزعجاً بغياب الضابط الأخلاقي، وهو القائل: «منذ خمسين عاماً كانت لدى الناس الإجابات، أما اليوم فما عادت لديهم».

ويؤكد المخرج المسرحي الحائز على جائزة بافتا، ديفيد هير، أنه وجد عالم التسويات الساقط هذا لسيمنون بغاية الإقناع، إبان فترة ترعرعه، ورأى أنه يتوافق تماماً مع مشاهداته الحياتية السابقة.

وقال إنه عرف منذ البداية أن سيمنون كان محقاً حين قال: «عادة ما يكون المجرم أقل ذنباً من الضحية نفسها. لكني فقط حين كبرت، أصبحت أدمن المواضيع القوية، المتمثلة بروايات وحشية تذهب بنظرة المؤلف القدرية إلى حدّها الأقصى».

يبني هير حبكة مسرحية «اليد» على عمل يعتبره متفوقاً تدور أحداثه في إطار من التشويق المثير المتقن سيكولوجياً، على نحو يؤدي بشكل غير مؤذٍ إلى نهاية كارثية، بطريقة ذكية تستند على جريمة لا توجد إلا في مخيلة أحدهم، بانتظار أن تخلق عقدة الذنب، وفرط الأحاسيس المدمرة للذات ذكورية الطبيعة، الجريمة الحقيقية.

ملامح الحبكة

تعود أحداث الرواية إلى بلدة صغيرة في ولاية كونيكتيكت خلال مرحلة الستينيات، حيث يضطر كل من المحامي دونالد دود وزوجته إنغريد وضيفيهما رايموند ومنى ساندرز لترك سيارتهم وسط عاصفة ثلجية ومواصلة السير للمنزل على الأقدام، إلا أنهم لم ينجوا منها جميعاً، ولم ينجح راي بالوصول إلا أن جثته وقبل أن يعثرَ عليها، وفيما الجميع ينفض الثلوج عن كتفيه، رابط ما يبصر النور بين دونالد ومنى.

ويتضح مع تبلور أحداث القصة أنها تدور بوتيرة أقل حول ما حصل لراي، لتصب بشكل أكبر حول ما فعل دونالد خلال ساعتي البحث عنه، وعما قد تعنيه هاتان الساعتان لبقية حياته.

فالرجل يظن أنه ارتكب جريمة، وذهب ليقتل شخصاً آخر. إلا أن عنصر الإثارة لا يكمن في الحدث بذاته، الذي تغيب عنه لحظة الرعب. فالمشهد أكثر قتامةً من ذلك، في رواية عن الخصوصية والمراقبة، حيث الجريمة الحقيقية فعل يومي متواصل بوسائل أخرى متمثلة بالزيجات الميتة والجثث.

العامل النفسي

تُسرد الرواية بصيغة المتكلم، حيث يستعرض البطل أنواع الذكريات والأحداث التي طبعت فترة أربعة أشهر ونصف، امتدت من موت صديقه حتى مقتل زوجته. ويتواصل السرد ليكشف شخصية مريض نفسي باحث بأسلوب متقطع وصيغة محفوفةٍ بالجمل الاعتراضية الاستفهامية.

ومن الملاحظ أن أياً من سيمنون أو هير لم يكترث بفعل الخيانة ذاته، بل بالعامل النفسي الكامن وراءه.

تأخذنا «اليد» من يدنا، وتقودنا في متاهة تفكير رجل مدفوع نحو القيام بتصرفات متطرفة في حياة يحكمها الغضب المكبوت والحسد.

ووضع هير كل ذلك في قالب درامي مناسب مسلطاً الضوء على الطبيعة الخانقة للحياة في البلدة الصغيرة وأهمية المرحلة المفصلية في فترة الستينيات، حيث كانت حركة الهيبيز التي هددت القيم السائدة. ويظهّر هير من هذا المنطلق عبقرية المؤلف جورج سيمنون باستحضار روايته البوليسية»اليد«، إلى المسرح الوطني، فيظهر من خلالها سبب إعجابه بمبتكر شخصية المفتش ميغريه الفصيح، المهووس بالقوة.

سيمنون الكاتب والرجل

وبالكاد يمكن اعتبار سيمنون فرنسياً بالممارسة، وهو المتحدث عن مقته لفن تذوق الطعام. وأي فرنسي كاتب أو سياسي يمكن أن يوافق على «أن جميع المثاليات تنتهي بصراع مرير ضد الذين لا يشاركون المعتقد؟.» كان سيمنون مرتعباً من ادعاء الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول فوز الفرنسيين في الحرب.

وكان البعد عن الحقيقة يستفزه، وآمن بأن أحداث الثلاثينيات والأربعينيات في القرن ال20 ألحقت بالفرنسيين هزيمة تضاهي تلك التي ألحقوها بالألمان. سيمنون الكاتب والرجل وليد تجربة وشعور أبدي بغياب محبة أمه، جعله يضع نصب عينيه هدف تطوير نظرة عن الحياة بعيدة عن الأوهام. وعبّر عن ذلك حين كتب: «لا بدّ أنه أمر عظيم الانتماء لجماعة، لأمة، أو لفئة، لما يمنحه ذلك من شعور بالتفوق. إن كنت وحيداً فأنت غير متفوق على أحد».

لم يحظَ القتلة المتسلسلون، الذين أصبحوا سريعاً كليشيهات الدراما الحديثة المدوية، بجاذبية معينة لدى سيمنون لأنهم استثنائيون بالتعريف الفضفاض للكلمة، وأقل شيوعاً في الحياة الحقيقية مما هم على الشاشة. ويرى هير أن المزحة الشهيرة القائلة بأن «سيمنون يؤمن معيشته من خلال قتل أحدهم كل شهر والشروع في اكتشاف القاتل»، لا تندرج إلا في خانة المزاح.

سيما أنه يؤمن بانتماء أعماله أكثر مع تلك التي أنتجها ألبير كامو وبول سارتر وآرثر كونان دويل. ويشير هير إلى ملاحظته أن القصص التي يفترض أنها مدفوعة بالسرد ترتكز حيويتها الحقيقية على خلق الأجواء المناسبة. أما قصص الجرائم فلا تدب فيها الحياة إلا حين تحظى بالكثافة، حين تشعر أن اللوحة اتخذت ملامح محسوسة.

أشار سيمنون ذات مرة إلى أنه اتفق في حديث له مع شارلي شابلن على أنهما مضطربان عقلياً، إلا أن الفارق الوحيد حسب شابلن يبقى في أن المرضى الآخرين يدفعون مقابل الحصول على العلاج في حين أنه يُدفع لهما ليشفيا نفسيهما، علماً أن كلمة «شفاء» لا تنطبق تحديداً على حالة سيمنون.

في الرواية

1968

صدرت رواية »اليد« عام 1968 عن مطابع المدينة أو «بريس دو لا سيته» الفرنسية، وذلك بعد أن قرر الكاتب البلجيكي جورج سيمنون الانتقال من تأليف الروايات البوليسية وبطلها ميغريه، إلى روايات نفسية تحليلية.

وتعالج الرواية لغز أربعة أزواج، إنغريد ودونالد دود، وراي ومنى ساندرز، أثناء توجههم إلى منزل عائلة دود في ولاية كونيكتيكت في ليلة عاصفة ليكتشفوا فيما بعد أن راي مفقود. وكانت الرواية قد ترجمت من الفرنسية

إلى الإنجليزية تحت عنوان »الحظيرة الحمراء«، إلا أن الترجمة الجديدة الصادرة عن دار »بنغوين« قد اعتمدت عنوان »اليد« في مطابقة للعنوان الفرنسي. ويعتبر سيمنون، وفق مؤشر اليونيسكو للترجمة، المؤلف السابع عشر الأكثر ترجمة في العالم، والمؤلف البلجيكي صاحب الأعمال الأكثر ترجمةً على الإطلاق.

في السينما والإذاعة

1999

2003

شكلت مغامرات المحقق ميغريه، الذي لا ينافسه إلا شيرلوك هولمز، مادةً لـ14 فيلماً و44 مسلسلاً تلفزيونياً.

ووضع الممثل موريس دينهام صوته بخدمة تأدية دور المفتش جول ميغريه، وخصص سيمنون له كبطل رواياته البوليسية 76 رواية و26 قصة قصيرة، وعاش معه 44 عاماً من حياته. وأطل دينهام خلال أعوام 1999 - 2002، عبر أثير محطة »البي بي سي الرابعة« بالصوت، في سلسلةٍ من حلقات إذاعية درامية مدتها نصف ساعة من السرد القائم على روايات سيمنون البوليسية.

وتواصل سرد حلقات السلسلة عام 2003، بصوت نيكولا لو بريفوست، عقب موت دينهام، فيما أدى جوليان بارنز دور سيمنون.

Email