«الجريمة والعقاب» ملحمة دوستويفسكي الخالدة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تظل رواية «الجريمة والعقاب» واحدة من الروايات الكلاسيكية التي تكشف بعمق عن خبايا الإنسان وأزمته التي لا تنتهي مع الحياة؛ فمنْ هو المجرم ومنْ هو الضحية.

ويتصور القارئ لهذه الرواية - التي تدور أحداثها في عام 1866م- أنه سيقف أمام جريمة، يليها عقاب محتوم تنفذه العدالة الأرضية على مرتكب الجريمة. ورغم وجود جريمة، ووجود عقاب، فإن الكاتب الروسي فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي يصوغ جريمة البطل وعقابه بصورة فلسفية تضرب بعمق في النفس البشرية وتحليل أفعالها المتناقضة.

تقدم الرواية في بدايتها، شخصية راسكولينكوف، الشاب صاحب الثلاثة وعشرين عاماً، المزدوج في فكره وتعاطيه مع المجتمع؛ فهو ساخط ورافض للظلم، ومع هذا يقوم بقتل سيدة مرابية عجوز لحل ضائقته المالية، ذلك في مشهد أدبي يوضح شاعرية القتل الفلسفي، ويكشف من خلاله مونولوجات خاصة عن الدواخل النفسية لراسكولينكوف؛ لتبدأ رحلته مع العقاب.

وهنا يحضر عقاب النفس ليتفوق على العقاب الأرضي، فكما يقول البطل: «محاكمة النفس أصعب وأبغض من المحاكمة الأرضية باسم القانون، فالقانون هنا ينطلق من الضمير»، ويجبرنا دوستويفسكي، عبر هذا المشهد على مواجهة النفس؛ في محاولة لفهم تعقيدات النفس الإنسانية.

حب وملامح ومعان

تفجر الرواية خلال مسيرة راسكولينكوف عدداً من المعاني الإنسانية، وملامح الحب الدافئ الخالص، الذي يكنه داخل قلبه الصغير؛ حيث يتعرف على «سونيا»، تلك الفتاة غير السوية، التي يجبرها أبوها على ممارسة الدعارة، ليجني من ورائها المال، ويقع البطل في حبها، ويغرم بها. نجد هنا أن ممارسة سونيا للدعارة لم تكن عائقاً أمام راسكولينكوف.

حيث مثلت له معاناة الإنسان وشقاءه في حياة لا ترحم يقف فيها الأقوياء أمام حياة الضعفاء، ويقول دوستويفسكي على لسان بطله حينما وجه كلامه إلى سونيا: «أنا لا أسجد أمامكِ أنتِ؛ بل أمام معاناة الإنسانية كلها». ومن هناك تتضح رؤية راسكولينكوف للحياة، وتفسر إقدامه على قتل المرابية العجوز؛ مبرراً لنفسه قتل روح في سبيل إنقاذ نفسه.

الفلسفة العدمية

يعتبر دوستويفسكي واحداً من رواد الفلسفة العدمية في أعماله الأدبية، فمساعي الإنسان رغم كثرتها واتسامها أحياناً بالحماقة لحماية نفسه دائماً ما تنتهي إلى نقطة البداية، فالإنسانية تدور في دائرة مفرغة لا مفر منها؛ ويتضح من خلالها أن صراعات الإنسان الداخلية ما هي إلا سبيله الوحيد لإثبات وجوده.

مبررات

يجد راسكولينكوف مبررات لارتكابه جريمته بقتل المرابية العجوز، حيث إنها، بحسب مبرراته، عجوز صماء غبية دنيئة مستغلة مريضة ولا توجد أدنى أهمية من وجودها على قيد الحياة، كما أنها يمكن أن تموت بعد ذلك بشهر على أية حال؛ نظراً لحالتها الصحية.

فضلاً عن الصعوبات الحياتية التي يعيشها؛ سواء من ناحية الديون المتراكمة عليه أو احتياج أمه وأخته للمال، وما لبث راسكولينكوف في إقدامه حتى شجع نفسه قائلاً: «لو أن نابليون وقفت في طريقه امرأة مرابية عجوز سيقتلها حتى يكون نابليون»، تلك المبررات توضح محاولات الإنسان للتشبث بما يملك من عقل حتى يبرر خطيئته، التي تستمر على مدار الأحداث.

تجوال بارع

برع دوستويفسكي في التجول داخل عقل المجرم الفلسفي راسكولينكوف، الذي يعتمد الحل الفردي لحل الأزمات، ليوضح رومانسية الإنسان وتفكيره القاصر على اللحظة، كما فعل مع «سونيا»، التي أعطاها أجرة خمسة أيام حتى لا تعمل في الدعارة، ورغم الحل اللحظي إلا أنه لا يكفي؛ فما تلبث الأموال أن تنفد حتى تعود إلى العمل من جديد، في إشارة إلى قسوة الحياة، تلك الطاحونة التي لا ترحم.

مع تجلي الأزمات الإنسانية وانغماس الإنسان في الصراعات يطفو على السطح «البطل الضد»، هذا المنكسر الضعيف الخاسر الذي لا يقوى على تنفيذ المهام، والمنتقل من هزيمة إلى أخرى دون وجود سبيل للهروب من واقعه الأليم.

هذا النمط من الأبطال يلقي بظلاله على أبطال رواية «الجريمة والعقاب»؛ فجميع الشخصيات على محك الحياة وهامشها ما تلبث أن تنتهي من أزمة حتى تدخل في أخرى، وكأننا أمام مرثية مأساوية مرهقة لبطلها وقارئها.

محاربة وتنفيذ

يصل تناقض بطل الجريمة والعقاب إلى حد تنصيب نفسه مُقرّاً للحق والباطل، قبل أن يقع في فخ عقاب النفس، حيث يقف أمام تغوّل الحياة وقسوتها في محاولاته لحماية «سونيا»، وينفذ بيد أخرى جريمة قتل لسيدة عجوز؛ ليقول إن الأصل في الإنسان هو التناقض ما دام يعيش تحت ظل الظلم والفساد.

يطرح دوستويفسكي في روايته الخالدة تساؤلاً خفياً عن مرتكب الجريمة الحقيقية، ومن عليه تحمل العقاب: فهل هو الفقر والفساد والقبح أم الإنسان الذي يقع فريسة لهذه الوحوش التي تضربه حتى آخر نفس يملكه ليصور الإنسان أنه المجرم؟ وفي الحقيقة، هو ضحية مُكْرهة على ما تفعله، فلا يملك سوى الصراع؛ حتى وإن لم يُقْدم عليه؛ لينتهي به الحال إلى التعب والسقوط والعدم، رغم استمراره على ظهر هذه الحياة القاسية.

صراع

تتحلى الرواية بالصراعات التي لا تنتهي، سواء الداخلية أو الخارجية، أيضاً مع الشخوص الآخرين، إلى جوار البطل الرومانسي الحالم بعالم خاص. كما تنادي الرواية طويلي النفس عند قراءتها.

فالرواية تتكون من جزأين، وهو أمر ليس بهين، كما أنها تجاوز الألف صفحة إذا ما حسبنا الجزأين مجتمعين، ولا ننسى انتماء دوستويفسكي إلى القرن التاسع عشر؛ إذ إنها رواية متأثرة بالإسهاب الوصفي المجهد، لا سيما إذا ارتبط بذكر التحولات النفسية والتعمق في البعد الإنساني.

بُعد شخصي

تحمل الرواية بعدا شخصيا لدوستويفسكي نفسه، فـ«الجريمة والعقاب» رواية صدرت عقب فترة اعتقال لدوستويفسكي، ولم تكتفِ الحياة بمعاناته في السجن؛ بل أثقلت عليه بالديون بسبب إدمانه القمار، فضلاً عن مهمته في إعالة أسرته وأسرة أخيه المتوفي ميخائيل؛ لذا أقدم على الكتابة لإنقاذ نفسه وعائلته. خلال هذه الفترة، بدأ في كتابة رواية تحمل اسم «السكارى».

وتتناول عادة السكر وما تجره على الإنسان، لكنه كان متأثراً بجريمة فرنسي يدعى «بيير فرانسوا لاسنيير»، وهو ما جعله يغير مسار روايته لتركز على راسكولينكوف، هذا الطالب المفصول من الجامعة البائس، الذي لم تنقذه خلفيته البرجوازية من الشقاء في الحياة.

وكما يحضر على لسان راسكولينكوف في الرواية: «إننا نستطيع عند اللزوم أن نخنق حتى إحساسنا الأخلاقي! إننا نستطيع عند اللزوم أن نحمل إلى السوق كل شيء فنبيعه فيها: الحرية، الطمأنينة، وحتى راحة الضمير!»، ليلخص أزمة الإنسانية وشقاءها المحتوم.

في السينما

1998

من أبرز الأعمال السينمائية التي اتخذت من أحداث الرواية مادة لها وحملت عنوانها نفسه، الفيلم الفنلندي «الجريمة والعقاب» للمخرج أكي كاوريسماكي، والذي يمثل رائعة سينمائية حاكت وجسدت رونق العمل في قالبه الادبي بدقة، وتدور أحداث الفيلم في العاصمة الفنلندية هلسنكي، أما الزمان فيختار المخرج الفنلندي كاوريسماكي مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم.

في التلفزيون

2012

لم تكن الدراما العالمية بعيدة عن تناول أحداث رواية «الجريمة والعقاب»، وبخاصة اليابانية، إذ قدم مسلسل بعنوان «الجريمة والعقاب».

وهو حول الشاب «ميروكو» الذي انعزل وترك الجامعة، وقرر أن يصبح روائياً، وذلك رغم آمال والدته وأخته في أن يكون له مستقبل مشرق، إلا أنه لا يلتزم بهذا، ويذكرهم بما أقدم عليه والده : انتحاره بشكل مفجع.

في الأوبرا

2016

لم تقف رائعة ديستوفسكي حد حضورها في السينما والدراما وإنما وصلت الأوبرا، فالرواية التي تتسم بالملحمية تلائم فن الأوبرا، إذ عرض عمل عنها على أوبرا الروك بالعاصمة الروسية موسكو، من إخراج الروسي أندريه كونتشالوفسكي، الذي سبق له أن كتب سيناريو للأوبرا عام 1979، بالتعاون مع المخرج المسرحي مارك روزوفسكي والشاعر يوري رياشينتسيف.

 

Ⅶواحدة من الروايات الكلاسيكية التي تكشف بعمق عن خبايا الإنسان وأزماته الحياتية

Ⅶ يجبرنا المؤلف في حبكة العمل على مواجهة الذات لفهم تعقيدات النفس الإنسانية

Ⅶ «من عليه تحمل العقاب، الفقر والفساد والقبح أم الشخص الواقع فريسة لهذه الوحوش؟»

Email