«الموت وفارس الملك» ملحمة أفريقية وطقس عريق

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يتناول الأديب الإفريقي وول شوينكا، الحاصل على «نوبل» للآداب، في مسرحية «الموت وفارس الملك»، العادات والتقاليد النيجيرية العتيقة التي واجهت صعوبات مع صدامها والتقاليد البريطانية؛ في ظل حالة الاحتلال التي كانت واقعة فيها نيجيريا.

نُشرت مسرحية «الموت وفارس الملك» عام 1975م، وقاد شوينكا عبرها محاولة لتطوير المسرح النيجيري، ويمكن القول إنه تعمق في هذا المجتمع متقاطع الخيوط ليستقي منه حكاية شعبية وقعت في مدينة اليوروبا القديمة بنيجيريا عام 1946 تتناول طقساً عريقاً؛ ليحولها إلى مسرحية تمثل وجهي المجتمع: ما بين إيمانه بالعادات ومحاولة الخروج عليها وإعمال العقل؛ ليقف المتلقي في النهاية حائراً ما بين وجه الحقيقة وزيفها.

1946

تقوم المسرحية على قصة حقيقية وقعت عام 1946م بمدينة أويو، إذ منعت السلطات البريطانية انتحار فارس الملك، وهو ما اعتبره النيجيريون آنذاك تدخلاً في العادات والتقاليد ومحاولة لقلب الأعراف المجتمعية؛ ما أدى إلى وقوع أحداث عنيفة ومأساوية اهتزت لها أوساط الوطنيين والمستعمرين على حد سواء، ولا يُنسى أن شوينكا كتب هذه المسرحية حين كان في المنفى السياسي بعيداً عن نيجيريا.

السرد

من خلال نهج المسرحية للقواعد الأرسطية في البناء، حيث ترتيب العمل وفقاً للتصعيد الدرامي، يأتي السرد فيها ممنهجاً منتظماً، فشخصية البطل المدعو إليسين أوبا - وهو لقب يعني أنه الموعود أو الرئيس - كان يعمل كبيراً لفرسان الملك وأقرب أصدقائه.

وكما هو مسار الأحداث، تبدأ المسرحية بعد وفاة الملك بثلاثين يوماً، وبحكم المعتقدات يدفن في اليوم الثلاثين، لكنه لا يموت وحده؛ إذ يلقى كبير فرسانه حتفه هو الآخر ويضحي بحياته عن طريق الانتحار، ذاك وفقاً لتقاليد عقيدة اليوروبا.

والغرض من انتحاره مساعدة الملك لتصعد روحه من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، ورغم حب أوبا للحياة وإقباله عليها إلا أن وفاءه للملك ولكونه أقرب أصدقائه، يتحمل عبء ومسؤولية الانتحار لمساعدته في موته كما هو عونه في حياته.

معانٍ

تفجر المسرحية عدداً من القيم الراسخة في قبيلة اليوروبا؛ منها نطقت به إحدى شخصياتها قائلة: «إن صرخات الراحلين لها الأهمية الأولى على مطالب الأقربين».. وهو ما يكشف عن أن تحقيق أماني الموتى هو الأولوية الأولى لدى هذه القبيلة.

ومن أبرز المعاني التي تكشفها المسرحية صدام الحضارات ولقاؤها وما يتبع هذا الصدام من أزمات عديدة، حيث إن سيمون - الضابط الإنجليزي - وزوجته جان، يرتديان ملابس تعود إلى طائفة إفريقية ميتة، استعداداً للذهاب إلى حفلة رقص تنكري.

وهو ما يعتبره أموزا - الضابط الإفريقي - إساءة إلى المقدسات وبالكاد ينظر إليهما؛ لأنه لا يستطيع أن يتكلم ضد الموت مع أناس يرتدون ملابس الموتى. ومن خلال هذا الموقف تتكشف ملامح الصدام بين الحضارتين الإفريقية والأوروبية والخلافات التي تهيمن على تلك العلاقة. ازدواجية

تكشف المسرحية أيضاً عن ملامح الازدواج في الشخصية الإفريقية التي تحاول الانسلاخ من جلدها لصالح العيش وسط الآخرين، وتتمثل هنا بشخصية «أولندي»، وهو ابن «أوبا» الذي يحضر ضمن سفن الأمير البريطاني القادم إلى نيجيريا، ولا تقف مهمته عند مصاحبته للأمير؛ إذ جاء إلى بلاده لدفن أبيه بعد أن يكون قد قتل نفسه وفقاً للانتحار الشعائري الذي ينتظره.

شخصية أولندي تمثل نمط الاندماج، إذ إنه يقف في منطقة وسط، حيث لا يستطيع وقف مسلسل الدم السائر بحسب العادات والتقاليد، وفي الوقت نفسه، يفضل البقاء مع الإنجليز والتمسك بمظاهر المدنية حتى في ملبسه، ويتجرد من مشاعره نحو أبيه حين يتحدث مع زوجة الضابط؛ حيث يتحدث عن دفن أبيه وكأنه يتحدث عن جثة شخص غريب لا يعرفه، بصيغة الجراح البارد، وذلك ضمن حضوره في حفلة الرقص التنكري.

تحول

يتحول مسار المسرحية بالنسبة إلى القارئ عندما تتدخل اليد الإنجليزية في منع تنفيذ عقيدة اليوروبا، حيث يجري إلقاء القبض على أوبا لمنعه من الانتحار، وهو عار كبير سيصيب القبيلة بالكوارث، وحينما تقع عين أوبا على ولده أولندي نجده ساجداً أمام قدميه طالباً الغفران، ويرفض الابن اعتذار والده ويعتبره متخاذلاً عن تنفيذ وعده؛ فرغم حياة الابن في الغرب إلا أنه لا يستطيع التدخل في عقيدة قبيلته، لهذا ينتحر أولندي بدلاً من والده؛ في محاولة لإنقاذ شرف الأحياء والموتى.

ثم تحمل النساء جسده ويذهبن به إلى مقر المندوب السامي المحتجز فيه أوبا.

ويُقْدِم أوبا على شنق نفسه بسلسلة كان يرتديها، ذلك قبل أن يستطيع العسكر منعه عن قتل نفسه، لتعلن أيالوجا - قائدة جماعة النساء - قائلةً: «لننسَ عالم الأحياء وعالم الأموات ونوجه اهتمامنا فقط إلى الذين لم يولدوا بعد».

تصنيف

رغم التحليلات التي خضعت لها مسرحية «الموت وفارس الملك» إذ جرى تصنيفها أنها تنتمي إلى أدب ما بعد الاستعمار؛ إلا أن سوينكا نفسه يقول إن «العنصر الاستعماري حادث عارض، مجرد عامل مساعد؛ فالمواجهة مــــيتافيزيقية بدرجة أكبر تقع داخل شخصية البطل.

كما أن هذه المواجهة مرتبطة بعالم العقل والشعور في قبيلة اليوروبا الإفريقية، وهذا الصراع الداخلي هو ما يعطي المسرحية رصانة شعرية وقوة درامية أكيدة؛ فـ«أليسين أوبا» هو بطل تراجيدي والخطأ داخــــله متمثل بميله الشديد للنساء وحبه للحياة؛ ما يجعله يتردد في اللحظة الحاسمة.

وبذلك تمكن الضابط الإنجليزي من القبض عليه ومنعه من الانتحار، وهنا يتضح أن العنصر الأجنبي مكمل؛ حيث إن المواجهة تحدث في أكثر من مشهد لتعرية الاستعمار الأوروبي وكشف ادعائه الزائف بالتفوق الإنساني أو الحضاري».

البعد الطقسي

تعتمد المسرحية بصــورة أساسية على البعد الطقـــــسي الذي يؤهلها لتكون ملحمة إفريقية خاصة، إذ يقدم النص المسرحي ملامح الموسيقى الإفريقية المستخدمة التي تسير على نهج أرسطو لتجسيد الملاحم، ونجد أن حضور شخصية المداح وأيالوجا والنساء ولجوقة (وهي مجموعة من المغنيين يسردون الأحداث ويعلقون عليها) جسَّدت ملامح الملحمة بنمطها الإفريقي الخاص.

Email