غيّر بيتهوفن من خلالها تاريخ الموسيقى

سوناتا «ضوء القمر»..عذوبة الحزن النبيل

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لا شك بأن لودفيج فان بيتهوفن أحد أعظم المؤلفين الموسيقيين في تاريخ الموسيقى فهو من أشعل ثورة حركت عمق وماهية الكتابة الموسيقية وبدل الفكر الفلسفي في التعامل مع جوهر الموسيقى والسوناتا على آلة البيانو المنفرد، ومن تلك الأعمال مصنف شهير معروف باسم «ضوء القمر»، التي كانت وقود التحول والتطور من الفترة الكلاسيكية الى الفترة الرومانسية.

وغدت بسرعة كبيرة أحد أشهر المؤلفاتِ الموسيقية التي كتبت للبيانو المنفرد، وقد اشتهرت بهذا الاسم الذي التصق بها حتى يومنا هذا بسبب مقالة كتبها الناقد الموسيقي لودفيج ريلشتاب عن هذ السوناتا عام 1836 قال فيه إن الحركة الأولى من ذلك المؤلف تذكره بقارب ينساب في ضوء القمر فوق مياه بحيرة لوسرن في سويسرا، وقد قدم من خلالها بيتهوفن عذوبة الحزن النبيل وغير من خلالها تاريخ الموسيقى.

قصة حب

أنهى بيتهوفن كتابة هذه السوناتا في عام 1801 وقدمها بنفسه في العام الذي تلاه، وقد أهدى بيتهوفن السوناتا إلى الكونتيسا جيوليتا جويتشاردي، التي كانت تبلغ من العمر 16 عاماً ودرستْ الموسيقى على يدي بيتهوفن لفترة قصيرة ثم توقفت عن الدروس لأن والديها لم يعجبا بعلاقة الحب التي نشأت بين بيتهوفن وجوليتا، أو بين موسيقي وأرستقراطية.

وضع بيتهوفن عنواناً ذكياً للسوناتا هو «ما يقرب من الخيال»، فقد كان تفسيراً منطقياً لقوتِها العاطفية الشاعرية و تحررها من القالب الموسيقي الكلاسيكي للسوناتا، فهي عبارة عن فانتازيا ارتجالية تعبِّر عن الانسياب الهادئِ الحر للروح والعقل، وعن حالةَ الكآبة والمزاجية المفرطة التي سيطرَتْ على بيتهوفن وقتها بسبب معاناته من تدهور السمع لديه.

ثورة إبداعية

تكمن قوة وأهمية «سوناتا ضوء القمر» في أسلوبها المتميز الإبداعي إلى حدٍ كبير، وبنائها الهيكلي الجديد الذي خالف القواعد الهندسية لقالب السوناتا وتسلسلها الدرامي، فقد جاءت الحركةُ الأولى بكائية حالمةً، والثانية واقعية على قدر أكبر من الحياة، أما الحركة الختامية فتحمل قدراً كبيراً من القلق والغضب و الاضطراب الواضح، وقد قلبت هندسة الموسيقى عبر إبداعها الثائر.

حزن نبيل

الحركة الأولى كانت قصيدة لا قدرة للكلمات البشرية على وصفها، ولطالما كان تأثير هذه الحركة البطيئة كبيراً يهز كيان كل من يستمع لها، ففيها حزن نبيل يدمي الروح حتى أن المؤلف الكبير هيكتور بيرليوز أطلق عليها لقب «البكائية» لشدة دراميتها البسيطة القريبة لطريقة المؤلف الألماني العبقري باخ.

إشراقات دافئة

تتكون هذه الحركة التي وضع لها بيتهوفن وصفاً موسيقياً بأنها أقرب للفانتازيا من ثلاثة عناصر موسيقية معبرة للغاية و مميزة عن بعضها بشكل واضح، العنصر الأول مادة تعبيرية نادرة في تاريخ بيتهوفن التأليفي وموجودة بكثرة عند المؤلف باخ، وهي ثلاثيات في اليد اليمنى تستمر على طول الحركة وكأنها موسيقى جنائزية مع تآلفات في القرار كأرضية متحركة تشبه الجوقة.

وهي العنصر الثالث الى أن يبدأ بعدها العنصر الثالث وهو لحن غنائي حزين يأخذك الى عوالم تأملية حالمة تتراوح بين الكآبة المظلمة وحزن العشق، وبين إشراقات دافئة نادرة، وصراعات لونية، ولحظات تقارب وتباعد، ودرجات وألوان مختلفة للحزن، ونداءات يائسة منكسرة، وقمر يختفي بين غيوم القدر.

مفصل سحري

الحركة الثانية هي المفصل السحري بين الحزن والسعادة، والإمعان في هذه الحركة الصغيرة حجماً والمعتدلة السرعة يقودنا إلى فكرة وضعها بيتهوفن ضمنياً أن هذه الحركة تشكل صلة الوصل بين الحركة الأولى والثالثة، أكثر من كونه جزءاً قائماً بذاته.

فنحن نستطيع إدراك أن مشاعر بيتهوفن في هذه الحركة أقرب إلى الواقع، وفيها الكثير من السهولة والتلقائية، وبعيدة كل البعد عن الطابع التأملي الذي تلاشى مع نهاية الحركة الأولى وإعداد للنار الهائجة في الحركة الثالثة.

المادة اللحنية الأولى بسيطة ذات روح خفيفة وإيقاع رشيق دون تسرع، يليها التريو بإيقاع أثقل مع انفتاح صوتي أكبر ثم العودة للمادة اللحنية الأولى التي تنهي هذه الحركة.

شاعرية رائعة

في الحركة الثالثة عاصفة من الحمم البركانية تتسابق للطيران من روح بيتهوفن الثائرة على قدر الفشل العاطفي، والصمم الذي سلبه التواصل الإنساني، ولعل وصف الأديب الفرنسي رومان رولان لهذه الحركة بأنها «لوحة ضخمة للروح البشرية»، من أجمل الأوصاف.

تبدأ الحركة بموجات متصاعدة درامياً وصوتياً تمثل المادة اللحنية الأولى أو المرحلة الأولى التي تنتهي بضربات عنيفة وغير مطروقة في تلك الفترة الفنية فتعطينا فكرة قوية عن مدى الانفعالية التي أراد بيتهوفن تجسيدها ومدى قوة و جموح مشاعره المتفجرة التي لم يعد قادراً على ضبطها.

لواعج الروح

أما المرحلة الثانية فتمثل الغليان الداخلي فتبقى الحركة اليد اليسرى ثائرة، أما اليد اليمنى فتغـــني لحناً درامياً كأنه آهات الروح التي ما تلبث أن تشتـــعل لتتحول الى موجات الحمم تتكرر في بداية الحركة، فندرك الحالة الروحانية التي أراد المؤلف رسمها.

فبعد هذه الموجات الساخنة ما يلبث بيتهوفن أن يبدأ مرحلة التفاعل بين النار الثائرة الخارجية، وبين نار الروح الداخلية حتى يجعلنا ندرك أن لم يعد قادراً على ضبط لواعج ناره الداخلية، فأصبحت تخرج على شكل حمم تفضح كل ما يدور داخل الروح البشرية، ينتهي التفاعل لنسمع البيانو يأخذنا الى لحظة تأمل صغيرة ما يلبث أن تقوده الى الغليان النهائي العاصف.

في السينما

2000

تظهر موسيقى «سوناتا ضوء القمر» في فيلم المخرج الصيني العبقري إدوارد يانغ عام 2000 «yiyi يي يي» بشكل مؤثر جداً فهي تعمق حساسية ودرامية المشهد.

2003

أما المخرج الأميركي غوس فان سنت فقد استعمل بذكاء كبير موسيقى بيتهوفن هذه في فيلمه الجميل «الفيل» عام 2003 ليفرض جواً من الدفء الحزين النبيل.

2007

قدم المخرج الإنجليزي أدريان شيرغولد عام 2007 فيلماً جميلاً بعنوان «الإقناع» عن قصة للأديبة الشهيرة جاين أوست، وقد ساهمت موسيقى ضوء القمر في تعزيز اللحظات التأملية الإنسانية.

في الفنون الجميلة

1892

رسامون كثر قدموا انطباعاتهم عن هذا العمل الكبير، ومن ضمن ذلك لوحة جميلة للرسام الأميركي رالف البرت بلاكيلوك عام 1892، لقربها الشديد من ما كان يعتمل داخل روح بيتهوفن الهائجة.

1985

في لوحة الرسام الروسي إيغور مدفيديف

عام 1985 نستطيع رؤية الحزن البيتهوفيني القلق والجميل.

Email