«الطوق والإسورة» بنية رمزية وأرواح توّاقة للخلاص

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحيى الطاهر عبدالله روائي مصري ولد في الكرنك/ الأقصر التاريخية المصرية، عام 1938، وهو من جيل عبدالرحمن الأبنودي وأمل دنقل، وقد ربطت بينهم صداقة قوية، توفيّ عام 1981 في حادث سيارة مؤلم. ألّف عدداً من المجموعات القصصية، منها «ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالاً» و«الدف والصندوق»..

و«أنا وهي وزهور العالم»، و«حكايات للأمير حتى ينام»، وثلاث روايات قصيرة: «تصاوير من التراب والماء والشمس»، «الحقائق القديمة صالحة للدهشة». وتأتي روايته «الطوق والإسورة» في مقدّمتها، وقد ترجمت إلى عدد من اللغات منها: الإنجليزية والفرنسية واليابانية والإيطالية.

1986

المخرج السينمائي خيري بشارة أحد أركان السينما الجديدة في مصر، أعاد كتابة الرواية بصرياً عام 1986، بمزيج مشبع باللون والموسيقى والشاعرية الأخّاذة بما يرتقي إلى مصاف السينما العالمية، لا سيّما وأن المكان يحتوي آثاراً مازالت حاضرة منذ أيام الفراعنة، فضلاً عن الثقافة المتجلية في العادات والتقاليد الضاربة عمقاً في الحياة التراجيدية الجمعية.

وهي تواجه أقدارها ومصائرها باستسلام كلّي، وكأنّ ذلك الزمن أقام فيها ولم يغادرها، وربّما نام في الأقصر أو الكرنك فاسحاً المجال للكهنة والعرّافين أن يتوارثوا مهمّة تجهيل وتضليل هذا المجتمع، كي يبقى خاضعاً وجاهلاً ومنكسراً أبداً، فليس ثمّة طبيب يعالج حتّى حمّى النفاس بعد الولادة وما زال الكيّ والحجامة يمارسان كلعنتين قدريتين، ومازال أهل القرية يتطيّرون من إقامة مطحنة للحبوب خوفاً من الطاعون ولعنة الأقدار، ومازالت الأمّهات يبحثن عمّن يقرأ رسائل أبنائهنّ الغائبين.

دقة ومهارة

وفي المقابل، مازالت الأهازيج التراثية والغناء النوبيّ الذي يبدع فيه الفنان محمد منير، حاضراً أيضاً، وبالرغم من كلّ شيء الأعراس تقام والنسوة يرقصن بفرح ونشوة ويغنين الأغاني المصاحبة للعروس في ذات الأشكال الطقسية التي ربّما تعود لآلاف السنين، يرصدها خيري بشارة بدقة ومهارة تنسيك أنك تشاهد فيلماً، وإنما معزوفة خالدة أشبه بنهر متدفّق، ولكن من ألحان وصور، وتنسى أن هذه الممثلة شريهان وهي تؤدّي دوراً، بل دورين فنافست نفسها..

فتراها البنت «فهيمة» المتجلية عفوية وطهرية تخلص لأخيها الغائب مصطفى ولأمها ولأبيها وتحافظ على عفّتها، وكذلك في دور ابنتها الفتاة العاشقة «فرحانة» كمقابل للجدّة فردوس عبدالحميد التي سمّيت «حزينة» وكانت حزينة أبداً: فقر وزوج على شفا الموت وابن غائب في السودان وفلسطين تنتظره حتّى يعود بعد عشرين عاماً.

اعتداء وإسقاطات

وإذا عدنا للزمن الساكن من جديد، سنرى أن المخرج قد عزز الفكرة عبر إسناد دور فهيمة الأم التي ماتت لشريهان نفسها فرحانة الحفيدة، ودور بخيت المشاري..

وهو عزّت العلايلي لمصطفى القادم الجديد بعد غياب 20 عاماً، في إشارة واضحة على أن ليس ثمّة ما يتبدّل أو يتطوّر، هنا الجهل مقيم والاعتقاد بأهل الكرامات هو العرف السائد.. حزينة مشبعة بكراماتهم حتّى النخاع ويتجلّى ذلك في سلوكها والتماس الحلول منهم على تغيّر الأحوال والأحزان تلفّها من كلّ جانب وصابرة أبداً.

لم يشر النصّ إلى الاستعمار ولا إلى غيره، مع أن ثمّة إشارات إلى الوجود الإنجليزي ومعسكرات الإنجليز والعمل فيها ما بين السودان وفلسطين، وربّما كان على هؤلاء البؤساء أن ينتظروا طويلاً حتّى تقوم الثورة المصرية وتغيّر المفاهيم نحو الإنسان ولا يحتاج الأمر إلى إشارة، إذ إن الوقوف عند ذلك الزمن والاحتجاج على مدى الإهمال الحكومي إزاء هذه المجموعة من البشر المغلوبين على أمرهم كان واضحاً، وليس ثمة داع للخطاب المؤدلج.

ومن هنا، فإن حادثة الاعتداء على فهيمة وحملها من زوج عاجز تأتي كتفصيل من جملة القضايا الاجتماعية والثقافية المطروحة، وربّما تتخّذ بعداً رمزياً يشير باستقامة إلى العجز الكلّي..

فضلاً عن عدم إمكانية إيجاد حلول بالنسبة لحادثة فرحانة سوى القتل، والقتل بطبيعة الحال ليس مقصوداً بذاته، وإنما تفكير العاجز بحلّ المشكلة في ظلّ غياب مؤسسات العدالة الحكومية الكلّي، وبذلك فإن رمزية العنوان «الطوق والإسورة» ستتجلّى واضحة في الفيلم، وتعني أن الإنسان ما انفكّ مكبّلاً بالأصفاد والأطواق وخاضعاً لمشيئات قاهرة وليس بإمكانه التحرر منها.

جانب

الأغاني والأهازيج التراثية الشعبية نقلت جانباً من حياة المصري المتغرّب لأجل لقمة العيش، ومنها ما غنّته شريهان في مطلع الفيلم: «أه يا لالالي علي اتغرب بعيد ولا قاللي»، وفلسفة الانتظار التي استقاها محمد منير والأبنودي من حياة الناس من أوجاعهم وأفراحهم، والتي في الوقت نفسه، عمّقت مسألة التفاعل مع الصورة والفضاء الريفي بخصوصيته الصعيدية، وبطبيعة الحال كان حضور الأبنودي في هذا الفيلم إضافة إبداعية تستحقّ الإشادة.

إن الذهاب في التفاصيل المثيرة التي عالجها الفيلم قد يقلل من حجم وفاعلية الخيال الذي امتاز به خيري بشارة، وفي قدرته على التعامل معها بروح مبدعة ..

ولا سيّما في جانب التراث الحكائي وأنماطه المؤسطرة بما يقترب من عالم الفانتازيا السحرية بشكلها التراجيدي المستمدّ من واقع حقيقي، وذلك بالتعاون مع الطاقم الفني والتمثيلي والإعداد الذي ساهم به كلّ من كاتب السيناريو يحيى عزمي بمشاركة الشاعر المعروف عبدالرحمن الأبنودي..

فضلاً عن الأداء الساحر الذي كنّا نوّهنا إليه، وجملة التقاطات الكاميرا للطبيعة الساحرة ونهر النيل الخالد والكرنك والأقصر كبنائين مهيمنين بضخامتهما وبالقاعات والأعمدة وأسرار سكانهما الذين يشبهون الأشباح، أي غير مرئيين، وإلى جانبهما بيوت (الغلابة) الطينية المفروشة بسعف النخيل وبعض الخشبيات، وليس في الأفق سوى الانتظار المرّ.

Email