الشتائم المتبادلة تسبب التشتت والشرود الذهني

خلافات الوالدين وراء ضعف التحصيل الدراسي للأبناء

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتقوقع الطفل في فراشه وترتعد فرائصه عندما يصل إلى مسامعه صوت والده يكيل الشتائم لوالدته بعد عودته من دوامه، وتزداد مخاوفه أكثر فأكثر عندما يصله صوت الأم يرد على صراخ الأب بصراخ مماثل، وتستمر المناوشات إلى أن يغلبه النعاس فينام، ثم يستيقظ في الصباح وقد علقت في ذاكرته مشاكل الأمس بين والديه لتبدأ معه مرحلة الشتات الذهني وعدم التركيز، ومشاكل أخرى نفسية تؤثر على مسيرته الحياتية والدراسية. بال في فراشه، بعد أن كان قد توقف عن ذلك منذ سنوات طويلة.

وعن مشاكل الآباء والأمهات وتأثيرها على الأطفال قال راشد سعيد المهيري، مدير مكتب مدير منطقة الشارقة الطبية، إن خلافات الزوجين لابد أن تظل في حدود ضيقة لا تصل إلى التلاميذ ولا إلى الجيران، وتأثير هذه الخلافات على التلميذ يختلف باختلاف المرحلة العمرية التي يمر بها التلميذ ودرجة الإدراك والفهم، وكلما كان التلميذ في مرحلة مبكرة من الدراسة، أي في المرحلة الابتدائية كلما زاد تأثير هذه الخلافات عليه، ويضيف إن الشرود أثناء الحصة المدرسية والبحث عن رفاق يسمعون المشكلات ويشاركون صاحبها البحث عن الحلول، هي أهم ما يواجهه التلميذ الذي يعتبر والداه المنزل مسرحاً لخلافاتهما الزوجية.

 

احتمالات الفشل

ويضيف المهيري إن درجة الاستيعاب التي تتوافر لدى التلميذ ترتبط بمدى انشغال ذهنه بقضايا لا علاقة لها بالدراسة ولا المذاكرة، وكلما قل الهامش المخصص للدراسة نتيجة تفكيره في خلافات والديه، كلما ازدادت احتمالات تعرضه للفشل والرسوب، ويؤكد أنه ربما يتواجد في الفصل أثناء الدرس تواجداً بدنياً فقط، وعقله بالكامل مشغول بالألفاظ التي سمعها موجهة من الأب إلى الأم قبل لحظات من مغادرته في الطريق إلى المدرسة، كما أنه عرضة للتعرف على أصدقاء السوء لأن الوالدين مشغولان بمشكلاتهما وكل منهما يبحث للآخر عن خطأ يصيده أو اتهام يوجهه إلى الطرف الآخر، وفي النهاية يكون الطفل هو الضحية على كل المستويات، على مستوى الدراسة وعلى مستوى حياته العملية أيضاً.

ويشير راشد إلى أن الأب والأم في غمرة الانفعال والغضب لا يحسن كلاهما اختيار اللفظ الذي يعبر به عن غضبه، فتكون النتيجة أن يلتقط التلميذ من على لسان أحدهما ألفاظاً غير لائقة، وبالنسبة للطفل تعتبر هذه الألفاظ ممهورة بختم الشرعية كونها صادرة من الأب وهو المثل الأعلى للطفل، ثم لا يلبث الطفل أن يستخدم هذه الألفاظ في المدرسة حيث يقوم بتوجيهها إلى أحد زملائه، أو ربما الأخطر من ذلك أن يستخدمها ضد أحد معلميه، وهو ما يغيب عن أذهان الزوجين لدى احتدام الخلاف.ويضيف المهيري الأخطر هو لجوء التلميذ الذي يعاني المشكلات التي لا تنقطع بين الوالدين إلى تدخين السجائر، كنوع من الهروب من الواقع المرير، ويتحول الأمر مع الوقت إلى الإقبال على تناول المشروبات الكحولية ،وربما تعاطي المخدرات في حالات أخرى، ويبدأ الوالدان في البحث عن حلول في زمن متأخر حيث لا ينفع الندم.

 

تأخر دراسي

ومن وجهة نظره قال عبد الله عبد الغفار المدني، المدرس في إحدى المدارس الخاصة بالشارقة، إن التأخر الدراسي هو النتيجة المنتظرة في ظل عدم الاستقرار في محيط الأسرة، خاصة إذا كان التلميذ في مرحلة لا يعي فيها ما يدور حوله من علاقات اجتماعية متشابكة، أو لا يستطيع أن يدرك دوره في المجتمع إلا أن يحصل دروسه ويذهب للمدرسة كل صباح بانتظام، والأسرة الهادئة المتفاهمة هي إحدى الدعائم التي يرتكز عليها التلميذ للوصول إلى تحقيق أهدافه، والأب والأم هما قطبا هذه الدعائم، ووجود خلاف يشعر به الصغير يعني اهتزاز هذه الدعامة في نظره والبحث عن دعامة أخرى تسانده وتسمعه عند الحاجة، والفشل الدراسي أحد النتائج المتوقعة نتيجة لعدم الاستقرار الأسري.

ويضيف المدني إن الحاجة إلى التأهيل النفسي والاجتماعي لمثل هؤلاء التلاميذ ضرورة ملحة، حتى يخرج من دوافع الفشل التي تحيط به ويستطيع التحول إلى تلميذ عادي لا يطارده شبح خلافات الوالدين ويحرمه من التركيز في الدراسة، ويؤكد أن المشكلة لا تتوقف عند الفشل الدراسي فقط، ولكن التلميذ الذي يعيش هذه الظروف الاجتماعية الحرجة في البيت، ربما يتحول إلى شخص عدواني يرى في أفراد المجتمع الناجحين من حوله أعداء محتملين، كما يتحول عقاب المعلم له على الفشل في أداء واجبه المنزلي إلى مشكلة يومية متكررة، تغير من تركيبته النفسية من شخص مسالم إلى إنسان شديد العدوانية، وينمو معه هذا الطبع إلى مرحلة المراهقة فيدخل منطقة الانحراف الأخلاقي من أوسع أبوابها. أما المحاسب أيمن الداوود فيرى أن الخلافات الزوجية تعتبر فعلا طارئا طبيعيا يمر على كل بيت ويأخذ وقتاً ثم يرحل، ولا يوجد بيت يخلو من المنغصات الزوجية التي تحدث بين الزوجين، وهذه من الأمور الطبيعية، ومن الحصافة أن يتجنب الوالدان وصول هذه الخلافات إلى الصغار تحت أي ظرف، ومن الخطأ الشائع ظن الزوجين أن الطفل لا يزال صغيراً ولن يفهم ما يدور بينهما، فتعلو المناقشات الحادة والعبارات التي تحمل التجاوز أحياناً والشتائم أحياناً أخرى، فيترك كتاب المدرسة ليفكر في أبعاد ما سمعه، وتفسيراته. ومن الغريب كما يقول الداودي أن الزوجين عند خلافهما ترتفع أصواتهما بالصراخ والشتائم دون اكتراث بموقع الابن أو البنت من المنزل، فيصل كل ذلك إلى مسامع الطفل ويتوتر نتيجة لذلك، أما عند إقبالهما على الصلح، فيحرصان على أن يتم ذلك في الخفاء بعد أن يدخل الأطفال إلى غرفهم ويستسلمون للنوم.. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة لهذين الزوجين: لماذا تتشاجرون في العلن وتتصالحون في السر؟

 

اظهار التفاهم

ويرى المحاسب صلاح الدين عبد العليم، رئيس قسم الشؤون المالية والإدارية في إحدى الشركات العقارية، أن خلافات الزوجين يراها الطفل بمنظوره لا بمنظورهما، فهو يحاول ترجمة جو التوتر الذي يشاهده ويسمعه إلى مفردات يمكنه استيعابها، وهو يقضي أوقاتاً طويلة في ذلك تلهيه عن الدراسة والواجبات الدراسية، ولحل هذه المشكلة لابد للوالدين أن يبتعدا بخلافاتهما من أمام الطفل ويظهران التفاهم أمامه حتى ولو بصورة مؤقتة حتى لا يخرج عن المفاهيم التي تخص سنه المبكرة ويدخل في أعباء معنوية تفوق إدراكه وتؤثر على مستقبله الدراسي تأثيراً سلبياً. ويضيف صلاح الدين أن بعض التلاميذ قد يكون متفوقا دراسيا طوال العام، ثم فجأة يتراجع مستواه بشكل ملحوظ، وقد يكتشف الاختصاصي الاجتماعي ذلك صدفة وقد لا يكتشفه، فتكون النتيجة الحتمية هي وجود ضحية لتلك الانفعالات وغالباً ما يكون مستقبل الابن، ويشير إلى أن خلافات الزوجين تدخل ضمن مجموعة من الأسباب التي تخرج بالأبناء عن محيط العقلانية والحكمة في التعامل مع الغير وتؤثر سلباً على مستواهم التحصيلي، وتسبب الارتباك في الحياة اليومية للطفل، وتجعله حبيس التوتر طوال اليوم، كما أنه يظل يترقب الشجار الذي ينشب بين الوالدين، وقد يمر اليوم كاملاً أو عدة أيام دون حدوث شجار بينهما، ويظنان أن الابن أو الابنة يستذكر دروسه في هدوء، بعيداً عن الجو المشحون بالتوتر، بينما الواقع أن الابن لا يستذكر دروسه لأن ذاكرته لا تساعده على التحصيل في ذلك الوقت.

 

مستوى التعليم

ويشير المحاسب محمود السيد إلى وجود تفاوت في المستوى التعليمي للزوجين، وهذا التفاوت هو الذي يحدد إلى أي مدى يمكن أن يتأثر الطفل بخلافات والديه، فالأسرة ذات المستوى التعليمي المنخفض يتأثر أبناؤها بصورة أعمق، لأنها لا تعي الطريقة الأمثل للتعامل مع الخلافات في حضور الأبناء، كما أن جهل البعض بالطرق العلمية في التربية قد يؤدي إلى الاستعانة بالابن، واستدراكه كطرف في الخلاف للضغط على الطرف الآخر من خلال تعمد الإساءة إليه أمامه، أو فضح عيوبه أمام الطفل، وكل هذه التصرفات من شأنها صرف تركيز الطفل عن الأمور الدراسية إلى اتخاذ مواقف دفاعية عند التعرض لمثل هذه الظروف، خاصة إذا أحس أن الهجوم قد يتحول من أحد الوالدين إليه.

 

الرفقة السيئة نتاج لخلافات الوالدين

قال الدكتور علي الحرجان اختصاصي الطب النفسي بالشارقة، إن خلافات الزوجين لا يجب أن تصل إلى مسامع الأبناء لأنها تضر بمستقبلهم الدراسي وتؤذيهم معنوياً، ويضيف إن غالبية الدراسات تدل على أن معظم أسباب المشكلات السلوكية والأخلاقية والتدني الدراسي، ناتجة عن الرفقة السيئة، والرفقة السيئة تنتج عن انصراف الزوجين إلى الاهتمام بخلافاتهما دون النظر إلى احتياجات الأبناء، ففي الوقت الذي يفترض على الأب مراقبة المستوى الدراسي للأبناء، والتعرف على أصدقائهم للتأكد من أنهم ليسوا رفقة سيئة، يتخلى الأب عن هذا الدور ليهتم بالصراع الداخلي مع الزوجة، ويترك للابن أو الابنة حرية اختيار الصديق الذي يبوح له بمشكلاته المنزلية التي لا يجد من يبوح له بها. ويضيف د. علي إن الطفل ينشأ في الصغر على مفاهيم عائلية خاصة، ثم يفاجأ عندما يبدأ دخول سن الوعي والإدراك أن الواقع يختلف، والصراع يحتدم بين طرفي الحياة اليومية، فيعيش في ازدواجية تسببها كل من قيم المنزل من جهة، والمفاهيم الجديدة التي تفرض نفسها عليه، سواء في المدرسة أو الشارع أو وسائل الإعلام من جهة أخرى، في ظل غياب الدور المنتظر للوالدين، ومن الطبيعي أن يتراجع مستواه الدراسي لهذه الأسباب.

Email