«دهن عود»: تعبير مبدع عن أرقى المشاعر وأجمـل الأحاسيس

ت + ت - الحجم الطبيعي

لفظكْ عسَلْ وأمَّا السِّوالفْ دهنْ عودْ

                              وأنــــا آذوقْ الــلِّـي تــقـولْ وأشــمِّـهْ

هذه ترويدة حب وعشق تليق بالحبيبة التي يبدع الشاعر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في وصفها بأبدع أوصاف الجمال، ولو كان هذا الوصف للوجه أو غيره من محاسن الجسد لكان سهلاً ميسوراً، لكن أن يكون ذلك الوصف لكلام الحبيب وسواليفه الفاتنة فهذا شيءٌ لا يتيسر إلا لشاعر أمسك على ناصية الفن بكلتا يديه؛ فهو بابٌ صعب المرام، ولا يحسنه إلا شاعر مرهف الإحساس بالجمال يستطيع اقتناص اللحظات الساحرة في لفتات الحبيب، ودلاله العجيب.

(لفظك عسل): هكذا بكل هذه الثقة وهذا الدلال للحبيبة يجعل صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، من كلام الحبيبة صورة تنطق بالسحر والجمال؛ فالعسل ليس هو الشراب فقط بل هو الإحساس الرائع بالجمال، فاللفظ هو ما يخرج من بين الشفتين من لطيف الكلام، وهو داء العاشق ودواؤه، وقد جعل الله تعالى الشفاء في العسل بقوله سبحانه في وصف النحل على وجه الامتنان على الإنسان {يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانه فيه شفاءٌ للناس إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون} (النحل:69). وإذا كان عسل النحل يشفي المريض، فإنّ كلام الحبيبة يُجَمّرُ الروح ويشعل نار القلب، ويجعل العاشق يشعر بالحسرة والشوق والحنين، وكم تحسّر فرسان العرب على كلمة لطيفة يسمعها الشاعر من الحبيبة في حين غفلة من الرقيب، فهذا قَدَرُ العشق في ثقافتنا العربية: الحرمان والشوق والحنين، ولكنه حرمان يصقل الروح ويسمو بالعاشق إلى مراتب الفرسان حيث يستمتع بكبرياء الحبيبة ويرى فيه دلالة على الصون والعفة، وكم تمدّح العشاق بالغوص في بحار العشق وعذاباته للظفر باللؤلؤة الفريدة التي لا يظفر بها إلا الغواص الشجاع:

عِفْناك يلّلي بِعِتْ نفسك رِخيصة

                         عفناك يومنّك تسالمت للبيع

بَحركْ قِريب القاع وكِلّنْ يِغيصَه

                  وما نِشْرب الاقداح من بعد تكريع

عمق ورونق

(أما السوالف دِهِنْ عودْ): ودهن العود في ثقافة الخليج هو من مفاخر النعمة والذوق الرفيع، والتشبيه به يعني أنّ المشبه قد بلغ الغاية القصوى في الجمال، فالإنسان الخليجي تحديداً شديد الإحساس بالجمال المنبعث عن الندّ والطيب، ولا سيما (عطر العود) الذي هو من معالم الكمال ويتنافس الناس في اقتناء أجود أنواعه مع حرصهم البالغ على عدم الانخداع بالزائف منه، بعد أن عرف القاصي والداني مدى عمق الإحساس بالطيب الذي يمثله هذا النوع الخاص من العطور، فهو أروع الهدايا للحبيبة، وهو الذي تُبذل فيه النفائس إكراماً لعينها الجميلة، فإذا كان هذا الإحساس المادي بالطيب فكيف يكون الإحساس بجمال كلام الحبيب وسواليفه التي تشبه رائحة العطر النافذة التي ينتعش بها القلب، ويفِزُّ لها الفارس تعبيراً عن لحظة المجد والفروسية، فلا شيء يشعل نار الشاعر مثل رضا الحبيبة ودلالها وكلامها الرخيم الذي يأخذ مجامع القلب، ويجعل كل مبذول في سبيل الحبيبة هيناً ورخيصاً، وهذه صورة عجيبة تم فيها تشبيه الحسي بالمعنوي؛ فالكلام المسموع هو نفس العطر المشموم، وهذه صورة بديعة ليس من السهل التعبير عنها إلا لشاعر مرهف الإحساس، عميق التذوق للجمال في جميع تجلياته.

قمة الإحساس

(وأنا آذوقْ اللي تقولْ وأشمِّهْ): وهذا هو قمة الإحساس بالحبيب وكلامه الجميل، أن يتذوق الإنسان كلامه ويشمه تعبيراً عن عمق الانسجام والحب بين القلبين؛ فالشمس على جدار الحبيبة أحلى من الشمس على جدران جاراتها، وقديماً قال الشاعر قيس بن المُلوّح الشهير بمجنون ليلى:

أمرُّ على الديار ديار ليلى

                     أقبّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا

وما حبُّ الديار ملكن قلبي

                     ولكن حبّ من سكن الديارا

وههنا يبدع صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في تشخيص الإحساس بجمال كلام الحبيبة حتى يكاد يذوقه ويشمّه، وهذه أيضاً صورة جمالية بديعة دالة على تمكن سموه واقتداره الفني، وهي في جوهرها تعبير عن عمق الإحساس بحضور الحبيب في حنايا الروح، فأن تشمّ كلام الحبيب وتذوقه فهذا يعني أنك مسحور بجماله ودلاله ولذة كلامه التي تسحر القلب وتجعل الصوت مشموماً مَذوقاً.

شطر حاسم

«مـتـخلِّينْ بـكْ خـوفْ واشـينْ وحْـسودْ»:

وهذا هو الداء العضال الذي أذاب قلوب العشاق، الخوف من الرقيب والواشي الحسود، لذلك يحب العاشق الخلوة بالحبيب خوفاً من أعين الحساد والرقباء الذين لا تطيب حياتهم إلا بتنغيص قلب الحبيب وتكدير ماء محبته، ولقد اشتكى الشعراء العشاق كثيراً من هذا البلاء المصبوب عليهم حتى صرخ بعض الأعراب محتجّاً على هذه السلطة الاجتماعية المتسلطة على قلوب العشاق الضعيفة، فقال:

أحقّاً عبادَ الله أن لستُ واردا

                     مياهَ الحمى إلا عليّ رقيبُ

ولا آتياً وحدي ولا بجماعةٍ

                   من الناس إلا قيل ذاك مُريبُ

وكم يرتاح الشاعر العاشق حين يقتنص لحظة غفلة من الرقباء، كي يفوز بنظرة من الحبيب، وهو ما عبر عنه بعض الشعراء بقوله:

إذا غفلوا عنا نطقنا بأعينٍ

                مِراضٍ وإن خِفْنا نظرنا إلى الأرض

شكا بعضنا لما التقينا تستّرا

                  بأبصارنا ما في النفوس إلى بعض

وقد أبدع الإمامُ ابن حزم الأندلسي، رحمه الله، في كتابه الجميل (طوق الحمامة في الأُلفة والألّاف) في بحث المعاناة الناشئة من محنة الرقيب، وسمّى الرقيب الحُمّى الباطنة وعقد فصلاً بديعاً استقصى فيه أقسام الرقباء وأنواعهم وما يتركونه في قلب العاشق من الحسرة والأسى.

(لو لي شريكٍ فيك بيسيحْ دمّه) فالحبّ استبداد وامتلاك بالكامل، وهو ما يؤكده صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بهذا الشطر الحاسم الجازم من القصيدة، فالحب لا يحتمل الشراكة، وكل شيء يمكن المساومة عليه إلا قلب الحبيبة، وهناك كلمة شهيرة للشاعر الداغستاني الشهير رسول حمزاتوف يقول فيها: شيئان يستحقان التضحية: الوطن والحبيبة الجميلة، ولا أظن صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد إلا من هؤلاء الفرسان الذين يعشقون الوطن، ويحمون الحبيبة بالسيف، فالحبيبة هي عنوان الكرامة والرجولة، وكم اشتعلت الحروب بين القبائل من أجل عيني حبيبة جميلة، وكم صمد الفرسان في غبار المعارك من أجل زغرودة تخترق القلب وتشتعل بها الروح، فالمرأة من أسرار المجد: شاء من شاء وأبى من أبى، وها هو صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد يستبد به الغيظ وينذر كل من تُسوّل له نفسه بالاقتراب من هذا الحمى المصون بأن دمه سيسيح هدراً إن هو لم يقف عند حدوده.

إبداع فني

«قـالـوا شـبـيهْ الـبـدرْ بـالـزِّينْ مـفـنودْ»، هكذا يقول الناس: إن الزين يشبه البدر ويتميز بجماله الساحر حين يكون نصيبه من الجمال مشابهة البدر، وهي صورة مألوفة قد تغنى الشعراء من الجاهلية حتى اليوم من حيث تشبيه جمال الحبيبة بالبدر في لحظة اكتماله، ومن الأبيات الجميلة الدالة على ذلك قول أبي عثمان الخالدي مما ذكره ابن حمدون في (التذكرة الحمدونية)، حيث يقول:

يا شبيهَ البدر حُسنا وضياءً ومثالا

            وشبيه الغصن ليناً وقواماً واعتدالا

أنت مثل الورد لوناً ونسيماً وملالا

وههنا يؤكد صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد أن الحبيبة فوق جمال البدر، وأن عينها المريوشة بالكحل والأهداب الطويلة هي الأجمل، ولا حرج على العاشق، فكل شيء في عينه من الحبيب أجمل من سواه، حتى قال كُثَيّر عَزّة في لحظة عشق ووجد:

فيا ليتنا يا عزّ من غير ريبة

                   بعيران نرعى في الخلاء ونعزب

كِلانا به عُرٌّ فَمنْ يرنا يقُلْ

                    على حسنها جرباء تُعدى وأجربُ

وههنا يؤكد سموه تفوّق جمال الحبيبة، وبلغة بديعة تقوم على الحوار والجواب وهو من معالم الإبداع الفني، حيث يقول:

«لا واللهْ أنِّـــكْ يـاأريَـشْ الـعـينْ عـمِّـهْ»، والعين هي مستودع أسرار المحبين، وحين تلمع العين يكون ذلك دليلاً على فرح القلب بالحبيب، وهل مثل العين قاتلٌ للفرسان؟! ورحم الله جريراً حين قال:

إنّ العيون التي في طرفها حَوَرٌ

                            قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا

يصرعْنَ ذا اللّبّ حتى لا حِراكَ به

                       وهُنَّ أضعفُ خلق الله إنسانا

وهذا الذي قاله صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد يسمّى عندنا في الفقه (دعوى)، وكلّ دعوى تحتاج إلى إثبات ودليل، فجاء البيت التالي إثباتاً ودليلاً على صدق القضية فقال سموه بكامل الثقة والفخر:

زيـنـكْ بـغـيرْ حــدودْ والـبـدرْ مـحدودْ

                     نــصْ الـشَّـهَرْ نــورَهْ وعـقِـبْ مـايتمِّهْ

وشتان شتان بين الجمال المحدود والجمال اللامحدود، فالقمر يتألق جماله ويتوهج في الليالي البيض، ثم يعود محاقاً كالعرجون القديم، أما الحبيبة فهي متورّدة الوجه بالجمال، لا تزداد على الأيام إلا بهاءً وجمالا ودلالاً، ومن أجمل الأبيات الدالة على هذا المعنى ما ذكره ابن داود الأصبهاني إمام الفقهاء الظاهرية في كتابه الجميل (الزهرة) من شعر أحمد بن أبي طاهر، حيث يقول:

طربتُ إلى حوراءَ آلِفة الخِدْرِ

                هي البدرُ أو إن قلتُ أكملُ من بدر

تُراسلني باللحظ عند لقائنا

                 فتخلسُ قلبي عند ذلك من صدري

ثمّ يبلغ الحب مداه لدى سموه، ويغلب على القلب فيبوح بمكنونه من الشوق والحنين، فإذا هو يشتاق للحبيبة في جميع أحوالها: غائبة وحاضرة، وموجودة ومفقودة تعبيراً عن استيلاء الحبيبة على منافذ القلب، فلا مجال للتفكير إلا بها، ولا همّ للعاشق إلا في رضاها:

أشـتاقْ لـكْ غـايبْ وحـاضرْ ومـوجودْ

                وكــلِّ هـمِّـي كـيـفْ أنـا آصـيرِ هـمِّهْ

ولقد عبّر بعض شعراء التصوف والعرفان وهو العارف الشهير أبو مَدْين المغربي، رحمه الله، عن هذا المعنى البديع أبدع تعبير، حين قال:

ومن عجبٍ أني أحنّ إليهمُ

                   وأسألُ شوقاً عنهمُ وهمُ معي

وتبكيهمُ عيني وهم في سوادها

              ويشكوهم النوى وهم بين أضلعي

هذا هو صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم يرقّ قلبه رقة العاشق الولهان الذي يرى جمال الحياة في عين الحبيبة، فكل همه في رضاها، ويسعى أن يكون فارس أحلامها وأمير قلبها كي يقدم لها وردة الحب البيضاء باستحقاق وفروسية تليق بالحبيبة المترفعة في كبرياء الأنوثة التي تسحر الفارس الشجاع وتجعله يطوف حول خبائها ويسعى في سبيل مرضاتها، وكيف لا يكون ذلك كذلك ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث الصحيح واصفاً سطوة الحب والجمال على الرجال الشجعان الفرسان، حيث قال: (ما رأيتُ من ناقصات عقلٍ ودينٍ أذهبَ للُبّ الرجل الحازم منكنّ)، فإذا كان أهل الحزم والفروسية تذهب قلوبهم وراء الجمال بنصّ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلا حرجَ إن شاء الله في هذا البوح الجميل والحنين البديع الذي فاض به قلب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، هذا القلب الذي يطوف بين معالم الجمال والإبداع، ويتعب وهو يقاوم أعاصير الحياة وأمواج البحار وهو الربّان الماهر لسفينة الوطن، فإذا وجد فُسحة من الوقت تسلّل إلى محراب العبودية لمناجاة ربه كما نرى في كثير من قصائده الجميلة التي تطفح بالدعاء والتذلل على أعتاب الله سبحانه، وربما هاج به الشوق والإحساس بالجمال فطاف بكعبة الحب وسعى بين الأهداب الجميلة والعيون الكحيلة، وترنّم بأعذب الألحان التي تطرب لها الروح، ويبتهج بها القلب المتذوق للحب والجمال.

للشعراء طقوس عجيبة، وإن إحساسهم الفريد بالشعر جعل الفرزدق يقول: (إن للشعر سجدات) تعبيراً عن روعة الإحساس بالفن الراقي، والذي أذهب إليه أن صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم من هذا الطراز من الشعراء الذين يترنمون بالشعر من أعماق القلب، ويجمعون بين الحس الأخلاقي والفني في قراءة الحياة والتعبير عن أرقى المشاعر وأجمل الأحاسيس.

Email