وسائل الإعلام شجعت الظاهرة بنشرها تسجيلات لهواة بدون مصداقية

المقاطع المصورة.. جدل ثقافة وهوس

التصوير والنشر بلا مسؤولية يشوّه المشهد الأخلاقي في المجتمع

ت + ت - الحجم الطبيعي

لماذا لا تُنقذ شخصاً أو تبادر بمساعدته قبل أن تلجأ إلى كاميرا هاتفك لتلتقط صورة له أو مقطع فيديو، بينما هو يعاني وربما في أمسّ الحاجة إلى مد يد العون لتخليصه أو درء الخطر عنه.. فعلٌ قد يكون غريباً، وأسلوب حياة أصبح واقعاً معاشاً، وممارسات شعبية تستحق الدراسة، إذ باتت الحياة محفوفة بالهوس بتصوير المقاطع الغريبة، ونشر الجرائم البشعة وغير المألوفة، والنشوة بتسجيل سبق صحافي، أو الظفر بمقطع جديد مثير للاهتمام، في ظل تزايد التقاط ونشر تلك المقاطع، حتى وإن لم تكن معلوماتها دقيقة أو مصداقيتها مؤكدة، لاسيما في ظل زيادة أعداد المتابعين لها، وبحكم حالة الرواج الذي تجده مثل هذه الممارسات والمبادرات الفردية، على مستوى وسائل الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي أو الإنترنت عموماً.

يأتي ذلك في وقت تخلت فيه معظم وسائل الإعلام، عن بروتوكولاتها المتبعة في عدم نشر الصور والمشاهد التي تفتقر إلى الدقة في المعلومة والقبول في التصوير، إذ أصبحت أجهزة الجوال وكاميرات التصوير العادية، وقوداً إعلامياً صلباً لنشرات الأخبار الرئيسية والبرامج والمواقع المختلفة، ما أعطى شحنة تشجيعية لهواة هذا النوع من التصوير دون تقيد بالآداب والشروط الأخلاقية وأيضاً القانونية، من وجهة نظر مراقبين.

حادثة سارة

حادثة الطفلة «سارة» أخيراً، التي كانت تبكي بحرقة في طوارئ إحدى مستشفيات منطقة الساحل الشرقي، لإحساسها بالألم من جراء فقدان أصبعها بينما كانت تلعب في ساحة البيت، وسقط على يدها جسم صلب، ولم يحذرها شقيقها أو يحاول إبعاد الخطر عنها، رغم تصويره ذلك المشهد كاملاً، في الوقت الذي بدا فيه مستمتعاً بتصوير شقيقته التي يسيل لعابها أثناء اندماجها باللعب.

تلك المقاطع المثيرة باتت تحفز كثيرين على التقاطها وتوثيقها، حتى وإن تعرض ملتقط المقطع نفسه للخطر، وصارت تحظى بالأولوية قبل الشعور الإنساني، خصوصاً وإن كان لدى الشخص القدرة على المساعدة أو الإسهام في إنقاذ الشخص وتخليصه من الموقف.

نحن بدورنا نتساءل من خلال استطلاع آراء عدد من الجمهور والمختصين، إن كان ذلك يعد تبلداً حسياً لدى المجتمع، أو هوساً بنشوة السبق الصحافي على حساب المشاعر الإنسانية، أو شيئاً من باب اللا مسؤولية الشخصية، واللا مبالاة الإنسانية.

استطلاع »واتس أب«

حول هذه الظاهرة الفضولية التي باتت أكثر حضوراً في مختلف المناسبات، بادرت «البيان» إلى استطلاع آراء أكثر من 800 شخص عبر «واتس أب»، معظمهم مواطنون، إذ أجمع 90% منهم على أنهم سيوقفون التصوير فوراً ويبادرون بالمساعدة أو اتخاذ موقف ما إيجابي، حتى وإن جاءت ردة الفعل متأخرة، هذا لسان حالهم، في وقت أكدت فيه دراسة اجتماعية حديثة أن 80% يبادرون بتصوير المقاطع النادرة أو المثيرة أو يقبلون على مشاهدتها، حتى باتت وجبة مثل هذه المشاهد تتكرر يومياً وعلى مدار الساعة في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي.

وضمن تحليل الدراسة تبين أن كمية المشاهد والصور والمعلومات التي يتناقلها أفراد المجتمع، تهدد بإيجاد ثقافة تلقي بتأثيرها السلبي على المشاهدين الذين ينتظرون الجديد دائماً، حتى وإن لم تكن معلومات دقيقة، فبعضها قد لا يتعدى كونه شائعة تلقى رواجاً شاسعاً دون أن يبحث مروجوها عن مصدرها الحقيقي. وهذا النوع من التوثيق يمكن أن يستخدم في غير محله، لتأليب الرأي العام، أو تشويه الصورة الوطنية والشخصية من جهة أخرى.

تأثير وبرودة

تعقيباً على ما سبق، رأت هدى النقبي أن المشكلة تكمن في أن غالبية المقاطع المؤثرة، أو المثيرة للجدل، أو الغريبة، يقف موثقوها خلف كاميراتهم معلقين على المشهد بكلمات أو ضحكات أو حتى بالتهليل والتكبير، وربما التأثر المتأخر. كثير من تلك اللقطات والمشاهد التي وصلتنا جعلنا نستذكر أو نتأثر كثيراً وربما نبكي، في الوقت الذي كان يفترض أن يجعلنا نتساءل عن البرود الذي يسكن مصور المقطع وحتى الأشخاص الموجودين بالمكان ولا يبدون أي موقف إزاء ما قد يحدث، والمؤسف أنه الهوس في إقحام هذه المقاطع للآخرين لتثير جدلاً أو مناقشة حولها.

اقتحام الخصوصية

وأوضح جمعة الحمودي من أهالي دبا الحصن، أن تصوير اللقطات النادرة والمثيرة، أصبح هوساً لدى الكثيرين، بل وسيلة رخيصة لإقحام الآخرين في الخصوصية الشخصية، كأن يلجأ الشخص إلى تصوير مواقفه وتصرفاته، بهدف التسلية والترفيه، أو لإظهار حالة من التبلد في المشاعر، فما الفائدة التي يجنيها الآخرون من معرفه مدى سذاجة أو جهل البعض، أو من معرفه المزيد عن حياة الآخرين وأفعالهم حتى وإن كانت الملامح إيجابية؟ مشيراً إلى أن البعض يقحم نفسه في مثل هذه الأمور العبثية بحثاً عن الشهرة، فكثيراً ما نرى مقاطع لا داعي لها تتزاحم في مواقع التواصل الاجتماعي، وهنا نتساءل عن مدى قوة أو إدراك أو حس ملتقطها في اتخاذ موقف التصوير ثم نشره.

لافتاً إلى أن المصورين الهواة لا يدركون ما تتركه المقاطع المصورة من أثر سلبي عميق في نفوس الآخرين، إذ إنها تسيء في معظمها إلى الحرمات، وتخترق الخصوصيات، وتضر بالمجتمعات.

تقدير الموقف

ومن وجهة نظر المواطن علي حسن البلوشي، فإن المسألة تعتمد على تقدير الموقف قبل المبادرة في تصويره، وأثناء التصوير إن لزم الأمر إنقاذ حياة إنسان أو مساعدته، أو إيقاف جريمة ما، فلا بد من إيقاف التصوير وتقديم الواجب الإنساني والوطني، وفي حال كان التصوير مساعداً في توثيق تفاصيل حادثة أو جريمة ما، فسيكون من المفيد الاستمرار في التصوير حتى وإن كان المشهد مؤلماً.

أمانة ومسؤولية

تذكر المواطنة خولة عبدالله النقبي، مقطع فيديو نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي، يوثق حادثة دهس طفلة صغيرة، تصدمها مركبة يقودها والدها، وفي الوقت الذي يبدو فيه المقطع مؤلماً ومحزناً، فإنه لم يكن بمقدور من كان يصور، منع الحادث أو المساهمة في إنقاذ الطفلة، ولم يكن بوسعه فعل شيء سوى الصراخ، الشاهد في هذه الحادثة أنه من المفترض والواجب الإنساني والتربوي، أن يبادر ملتقط المشهد بتحذير الصغار من اللعب وسط ساحة البيت، أو منعهم من الوجود قريباً من ممر السيارات التي تدخل إلى باحة البيت، فتلك مسؤولية الكبار من باب الأمانة على الصغار، ولو أننا تحلينا بهذه المسؤولية، لما كان لمثل هذه الحوادث المأساوية أن تقع.

تحذير

التصوير يقلل متعة الاستمتاع باللحظة

صرح مصدر أمني، أن التقاط المقاطع المصورة لا يعد فعلاً بسيطاً، إنما يتداخل مع جوانب اجتماعية وصحية وقانونية وحتى أخلاقية، وقد أصبح بإمكان أي شخص أن يلتقط صورة بسهولة مطلقة، وينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، لافتاً إلى دراسة بريطانية، يحذر فيها خبراء نفسيون من أن هوس التصوير وتسجيل المواقف، من الممكن أن يكون له تأثير ضار في الذاكرة، ما قد يؤدي إلى حدوث تصرفات لاإرادية وغير محسوبة من الشخص، كما أكدوا أن التصوير يحرم الأشخاص من الاستمتاع باللحظات وعيشها.

مسؤولية

مواقع التواصل تورث الهوس والاندفاع

الدكتورة مها عبدالمجيد أستاذ الإعلام المشارك بكلية المعلومات والإعلام والعلوم الإنسانية في جامعة عجمان، وكونها مختصة في الشأن الاجتماعي في الإعلام الإلكتروني، أوضحت أن وسائل التقنية تعد من الأمور الجديدة على مجتمعنا؛ لذا فمن الطبيعي أن تكون مخرجاتها لدى البعض الهوس والاندفاع دون مراعاة الآثار الناتجة عنها، أو حتى الالتفات إلى الخصوصية والمشاعر الإنسانية.

وأشارت إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً «انستغرام»، أصبحت جزءاً من حياتنا، وباتت المحرك الفعلي لكثير من السلوكيات، إذ إن العديد من أفراد المجتمع يلجؤون إليها لكونها متنفساً للتعبير عما يريدون، حتى وإن كان ما يبحثون عنه خارج نطاق المعقول أو تحت دائرة اللامقبول، لاسيما في ظل وجود مزايا تشجع على الممارسات اللامسؤولة مثل خاصية «المميز، والأكثر مشاهدة أو متابعة»، فهناك من يصور نفسه أو يوثق أحداثاً يومية، أو ممارسات عفوية، دون وعي أو إحساس بالمسؤولية الاجتماعية، إنما لغرض تحقيق السبق في بث المقطع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

مبرر ذلك كما أشارت، هو أن تلك المواقع عبارة عن عالم افتراضي مفتوح، فيه كل ما يريد الشخص، وهو ما جعل مواقع التواصل الاجتماعي تتفرد بصدارة اهتمام أفراد المجتمع.

وشددت الدكتورة مها عبدالمجيد على ضرورة التوعية الإعلامية في ما يتعلق بزيادة الوعي بكيفية الاستخدام الأمثل لهذه الوسائل، ونشر ثقافة الحقوق، واحترام خصوصيات الآخرين، إلى جانب غرس مبدأ المسؤولية المجتمعية في نفوس الأبناء منذ الصغر.

نوعية غرض التصوير يعفي من الجرم

بسؤال المحامية موزة مسعود، عما إذا كان يعتبر تصوير الجرائم أو الحوادث البشعة دون أن يحرك مصورها ساكناً، مخالفة لاحقة، قالت إن هذا الأمر لا يمكن إثباته كمخالفة وفق القانون الحالي، لاختلاف الهدف أو الغرض من التصوير، وإن كان وفق المادة (378) من قانون العقوبات، «يُعاقب بالحبس والغرامة كل من اعتدى على حرمة الحياة الخاصة أو العائلية للأفراد، وذلك بأن ارتكب أحد الأفعال الآتية في غير الأحوال المصرح بها قانوناً أو بغير رضا المجني عليه: كأن التقط أو نقل بجهاز أياً كان نوعه، صورة شخص في مكان خاص».

الرضا واجب

وأضافت: إذا صدرت الأفعال المشار إليها في الحالتين السابقتين أثناء اجتماع، على مسمع أو مرأى من الحاضرين في ذلك الاجتماع، فإن رضا هؤلاء يكون مفترضاً.

كما يعاقب بالعقوبة ذاتها، مَنْ نشر بإحدى طرق العلانية، أخباراً أو صوراً أو تعليقات، تتصل بأسرار الحياة الخاصة أو العائلية للإفراد، ولو كانت صحيحة. ويحكم في جميع الأحوال بمصادرة الأجهزة وغيرها مما يكون قد استخدم في الجريمة، كما يحكم بمحو التسجيلات المتحصلة عنها أو إعدامها. ويمكن أن يطبق في شأنها قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، ويمكن أيضاً تطبيق قانون تنظيم الاتصالات.

الجهات الأمنية

وأوضحت المحامية موزة مسعود أنه إذا كانت الصورة أو الفيديو المسجل يشكل خطراً، أو ينبئ عن خرق كبير للقانون، أو قدرة الشخص على الإسعاف والمساعدة، فإن القضية يمكن أن ترسل للجهات الأمنية لمتابعتها ورصد صاحبها واستدعائه، ذلك يعني أنه إذا كان المقطع يوضح أن صاحبه شارك في استعراض للسيارات مثلاً، أو صور مقطع فيديو لاستعراض بالسيارات، وذلك هو الباب الوحيد للدخول القانوني على أصحاب الـ«سيلفي»، أو مقاطع الفيديو لغير المسؤولين والمتحملين لمسؤولية ارتكابهم أخطاء في حق الآخرين، وكذلك أنفسهم بصفة خاصة.

تبرير نفسي

أبدى مختصون في الطب النفسي، عدم تأييدهم لفكرة «تبلد مشاعر» ملتقطي المقاطع المصورة، وإن كان هناك خلل ما في طريقة التعامل مع المواقف المروعة، أو عدم اكتراث الآخرين لرؤية المشاهد القوية والمؤلمة، مشيرين إلى أنه ليس بالضرورة أن يفسر الأمر أنه تبلد في الإحساس، ولكنه من هول الصدمة أو الخوف من المبادرة أو الموقف برمته، مخافة أن يصيبهم أذى، فهم ليسوا مؤهلين دائماً للتصدي لحادث قوي، كون ردة الفعل قد تكون متأخرة جداً أو قد تأتي عكسية، كما أن هول الصدمة تجعل الشخص يقف مذهولاً وتكون ردة فعله سلبية في هذا الجانب.

Email