تجارب فاشلة تكشف عن هدر الأموال في بداية الطريق

الاندفاع واللامبالاة يورّطان الشباب

السيارات تستنزف الكثير من رصيد الشباب المادي أرشيفية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيراً ما نسمع من أقارب وأصدقاء، قصصاً من المعاناة نتيجة مشكلات مالية تعجزهم عن تلبية متطلبات حياتهم والإيفاء بمصاريفهم اليومية، خصوصاً في الأيام الأخيرة من الشهر.

قد يبدو ذلك أمراً طبيعياً ومنطقياً إن كان راتب الشخص أو دخله الشهري متواضعين أمام كثرة المتطلبات الأسرية، لكننا سنصاب بالذهول حتماً عندما نعلم أن ضحايا هذا السيناريو هم شباب في مقتبل حياتهم الوظيفة، رواتبهم ليست قليلة، وكثير منهم غير مطالبين بمسؤوليات مرهقة، كالزواج أو بناء بيت أو إعالة أفراد أسرهم، ولذا فإن تذمرهم المتواصل يستفز لدى أصدقائهم التساؤلات للتعرف إلى الأسباب التي أوقعتهم في هذه الحالة.

إحساس شبابي

خلفان عبدالله قال إن الحياة الوظيفية قد تكون التجربة الواقعية الأولى التي يعيشها الإنسان بعد سنوات ممتدة من الطموحات والأحلام التي رسمها للمستقبل، وربما تكون أول اختبار له في الحياة العملية، حين أصبح الشخص سيد الموقف بعد أن كان يتلقى مصروفه الشخصي من ذويه وكان إنفاقه سريعاً وتخطيطه محدوداً أو منعدماً بالنظر إلى حجم المال الذي كان يحصل عليه، بخلاف هذه المرحلة التي يجني فيها الشاب من عمله، مبلغاً كبيراً يتعين عليه أن يستفيد منه ليبني به مستقبله.

وأضاف أنه عايش هذه المرحلة وهذا الإحساس الشبابي، حين كان يعاني مشكلة سوء تدبير أموره المادية التي تتجدد في الأيام الأخيرة من الشهر، وأحياناً في منتصفه، وعلى الرغم من قلة التزاماته المالية، إلا أنه لم يجد سبيلاً لتجاوز هذه المعضلة إلا بعد أن اكتشف أسبابها، إذ كان عند حصوله على راتبه الشهري يسحبه من البنك ويضعه في محفظته، ويبدأ في استنزاف ما في محفظته دون حساب، ليفاجأ في أيام لاحقة بأنه لم يعد لديه سوى القليل من المال الذي لا يسد رمق ما تبقى من أيام الشهر، بعد أن أنفق كثيراً من المال على أمور لا حاجة لها فيها.

قصة صديق

أما أحمد علي فقال إن الاندفاع في بداية الحياة الوظيفة، واللهاث وراء الطموحات الخيالية، من أسباب تعثر الشباب مادياً، مستدلاً على ذلك بقصة أحد أصدقائه الذي بدا طموحاً بتفكيره إلى حد الخيال، وكان كثير الحديث عن خططه المستقبلية التي لا يستوعبها العقل أحياناً، كونها غير مبنية على أسس ودراسات تتوافق مع حجم الطموحات التي ظل يتحدث عنها، دون اكتراث بنصائح أصدقائه بالتريث والاستعداد قبل اتخاذ القرار.

وأضاف أن صديقه فور حصوله على وظيفة في إحدى المؤسسات، سارع إلى اقتراض مبلغ كبير من أحد البنوك، وانهمك في ترجمة أفكاره الهلامية التي استند فيها إلى المقارنة مع مشاريع أخرى مشابهة، وبعد فترة قصيرة افتتح مشروعه الأول الذي كان يجهل الكثير من التفاصيل حوله، ولكن صغر المشروع وفكرته البسيطة حفظاه من التعثر، وبعد فترة قصيرة افتتح مشروعاً آخر، ووضع فيه الجزء الأكبر من المبلغ الذي اقترضه، وبه وصل إلى نهاية أحلامه وطموحاته، بعد أن تعثر بالمشروع منذ الأيام الأولى، وأصبحت أفضل الحلول إغلاقه، وتوفير ما تبقى من راتبه الشهري، مشيراً إلى أنه أثناء تركيزه على المشروع الثاني، أهمل مشروعه الأول فتراجع إلى حد الخسارة، حتى وجد نفسه مجبراً على التخلص من المشروعين ودفع ما ترتب عليهما من استحقاقات مالية.

محمد الأشخري اعتبر أن سوء التدبير لدى الشباب هو نتيجة حتمية لتحييد الأطفال عن تحمل المسؤولية منذ الصغر، وتوفير الأسرة لهم كل ما يرغبون، حتى أصبحت الأشياء التي يمتلكونها وكأنها من دون قيمة معنوية أو مادية، لافتاً إلى أن هذه التربية تنعكس بصورة سلبية على الأبناء عند دخولهم معترك الحياة العملية والوظيفية، إذ لا تسعفهم الخبرات الشحيحة التي يمتلكونها في تدبير أمور حياتهم، خصوصاً وأن الإنفاق المادي يعد إحدى الركائز الأساسية التي تبنى عليها الحياة عموماً.

مساحة للترفيه

وفي السياق ذاته، أكد بدر الكعبي أن الإنفاق المتوازن والتدبير الجيد في الموارد المالية، لا بد أن يتم بعد تفكير عميق ودراسة جدوى محكمة، وليس بمجرد اتباع الشخص لرغباته، منتقداً العديد من الشباب الذين ينظرون إلى الحياة بأنها مساحة للترفيه عن النفس، والتنافس بالمظاهر والشكليات التي لا تورث سوى ظروف مالية متعثرة، مشيراً إلى أن غالبية من ينتهجون ذلك لا يلتفتون إلى نصائح أصدقائهم والمقربين منهم، ولا يستجيبون للمحاولات الجادة لثنيهم عن هذه التصرفات، وإبعادهم عن القرارات الخاطئة، متسلحين بقناعة: «دام الشي في خاطري ليش أحرم نفسي».

تغيير السيارة

تطرق الشاب بدر الكعبي إلى قصة أحد أصدقائه، الذي ظل يعاني ظروفاً مالية صعبة، بسبب ما اقترفه في بداية حياته الوظيفية، إذ انصب تركيزه على امتلاك السيارات الفارهة وتغييرها بصورة مستمرة، وفي كل مرحلة من حياته العبثية تلك، يتكبد مبلغاً كبيراً من المال، حتى تراكمت عليه الديون، وأصبح لا يمتلك سيارة يستخدمها سوى تلك التي أستأجرها من إحدى شركات تأجير السيارات مقابل مبلغ يسدده نهاية كل شهر.

متطلبات

المناسبات ليست عبئاً والادخار يتصدى للأزمات

يتذرع البعض في تبرير حالة الضغط المادي التي يتعرض لها، بمتطلبات المناسبات والمواسم التقليدية؛ كالأعياد وشهر رمضان وبداية الفصول الدراسية للأبناء، أو حفلات زواج الأقارب والأصدقاء، والتي تثقل فاتورتها إن تزامنت في شهر محدد.

لكن وفي الوقت ذاته يفنّد كثيرون هذه الحجج التي لا يمكن لها أن تأتي على الأخضر واليابس كما يدعي البعض. في هذا السياق قال أحمد عبيد، اختصاصي اجتماعي، إن ديننا الإسلامي أمرنا بالتوازن في الإنفاق، والاعتدال في كل شيء، لكي لا يعيش الإنسان ما تبقى من حياته في ظروف مالية أو نفسية أو اجتماعية صعبة، مشيراً إلى أنه وانطلاقاً من هذه النظرة، وجب على الشخص أن يدبر أمور حياته وفق خطة واضحة المعالم، دون أن يقصر نظره على الأيام القريبة وحسب.

وأضاف إن العاقل يدرك حجم المسؤوليات ويقدر المطلوب منه في مختلف المناسبات، لذلك فهو قادر على تلبية المطلوب بالاستعداد منذ وقت مبكر وتقدير الاحتياجات في فترات متباعدة، وهو ما يستوجب أن تظل ثقافة الادخار جزءاً مهماً من أسلوب حياة الشخص، فالمناسبات الحياتية تستوجب استعداداً منطقياً لتجنب الوقوع تحت طائلة الأعباء والضغوط، وبذلك ينجو الشخص بحياته.

استثمار

الوظيفة تعفي صاحبها عناء نصف الطريق

يرى مختصون في علم الاجتماع أن مجرد الحصول على وظيفة فإن ذلك يعفي الشخص من عناء نصف الطريق في تأسيس مستقبله وبناء خططه والاستعداد لها على أكمل وجه، مشددين على ضرورة استثمار هذه الفترة الزمنية المبكرة في حياة الشباب، لوضع أسس وقواعد الاستقرار في الغد والتفكير في كيفية بناء حياة أسرية مستقرة.

ويحذر علماء الاجتماع من تجاهل فئة من الشباب ما ينتظرهم في المستقبل القريب، لاسيما أولئك ينظرون إلى الفترة التي يعيشونها على اعتبارها الفرصة المطلقة لتحقيق رغباتهم الشخصية الضيقة، كامتلاك سيارة فارهة وباهظة الثمن، أو السفر بكثرة إلى بلدان مختلفة، أو اقتناء «الماركات» بلا ضوابط أو حدود، ونحو تلك التصرفات المرهقة.

ويرى ذوو الاختصاص أن هذه الشريحة من الشباب لا تدرك عواقب تصرفاتها إلا في حالات حرجة، مثل اقتراب موعد الزواج وما يتطلبه من مصاريف كثيرة، هنا سيجدون أنفسهم عاجزين حتماً عن توفير متطلبات تقليدية لا بد وأن يؤمنها كل شاب من أجل حياة مستقرة مستقبلاً، عندها سيلجأون إلى البنوك لتأمين الأموال اللازمة للبدء في مشروع الزواج، وفي تلك الخطوة بداية لانهيار حياة الكثيرين، إن لم يحسنوا التصرف في ما تبقى من سنوات عمرهم.

تثقيف الأبناء مالياً يجنِّبهم الاستشارات العبثية

إدارة الموارد المالية الشخصية والاقتراض والادخار، كلها سلوكيات وإفرازات لواقع الثقافة المالية لدى الفرد وفي المجتمع، وهي للأسف ثقافة غائبة في مدارسنا ومجتمعاتنا العربية، وبالتالي فإن سلوكياتنا المالية في الغالب، تكون وليدة التجربة أو استشارة الأصدقاء والمقربين من غير ذوي الاختصاص، ذلك ما أوضحه الاستشاري المالي سعد الربيعان، الذي قال إن أولى خطوات الحل لحسن إدارة مواردنا المالية تكمن في تعديل نظرتنا ومفاهيمنا تجاه المال، بالتزامن مع تغيير سلوكياتنا الاستهلاكية.

شكل منهجي

وأضاف الربيعان: بما أن ثقافة تدبير الموارد المالية شبه غائبة عن البعض، وطرق اكتسابها غير متوافرة بشكل منهجي، بالإضافة إلى أن عملية التغيير صعبة على الفرد، فمن المهم الالتفات إليها في عمر مبكر، وإن لم يكن ذلك فتكون بصورة تدريجية، لافتاً إلى أن إدارة الموارد المالية الشخصية عملية ذات أبعاد اجتماعية ونفسية وتربوية أكثر منها قضية اقتصادية، فنظرة الناس ورغبات الإنسان اللامتناهية، وطرق تربية الأبناء، لها تأثير على إدارة الإنسان لموارده المالية أكثر حتى من إمكانياته وقدرته الشرائية، ومن أجلها فهو مستعد للإنفاق بما لا يملك أحياناً «من خلال الاقتراض» لتحقيق رغبة عابرة، أو للظهور بما يعطي انطباعاً مغايراً أمام الآخرين، أو لتعليم الأبناء أن المال مكافأة وغاية أكثر منه وسيلة.

الثقافة المالية

وأشار إلى إن الثقافة المالية تعني التعامل بوعي ومسؤولية تجاه الموارد المالية الشخصية، وبناء هذا الوعي المالي لا بد أن يأتي من الأسرة والمدرسة والمجتمع وكل من له علاقة وتأثير بطريقة تعامل الإنسان مع المال، لذلك نجد أن الثقافة المالية لا بد أن تبدأ منذ سن مبكرة أي منذ السابعة على الأكثر مروراً بالمراحل الدراسية المختلفة وحتى ما بعد الجامعة، وهي المرحلة التي يبدأ فيها الشخص بالاستقلال المالي نتيجة الحصول على وظيفة.

سبب استهداف الطفل كما أوضح الربيعان، لغرس القيم المالية وتهيئة الشخص قبل دخوله دوامة الصراع بين الرغبات والحاجات المعروفة مع استلام أول راتب شهري، منوهاً بضرورة مراعاة الفروق العمرية بين كل مرحلة دراسية، فطالب الابتدائية المعتمد بالكامل على أهله، يختلف عن المراهق الذي بدأ للتو الشعور بالاستقلالية وتكوين الصداقات، وكذلك الحال مع طالب الجامعة الذي يقضي جُلّ وقته خارج البيت، وقد امتلك سيارته الخاصة أو بدأ الدراسة في الخارج.

التعليم بالترفيه

وأكد أن أساليب الثقافة المالية مختلفة، من أفضلها أسلوب «التعليم بالترفيه»، ويعتمد هذا الأسلوب على الألعاب التربوية، والقصص المصوّرة والأفلام السينمائية والألعاب الإلكترونية عبر الأجهزة اللوحية والإنترنت وغيرها، كما أنه من الضروري في تعليم الأطفال، أن يتم ضمان انسجام القيم المالية التي يتم زرعها في ذهن الطفل أو المراهق نحو التعامل مع المال، مع ما يتلقّاه في البيت، مشيراً إلى ضرورة وجود حملات توعوية وورش عمل يكون لهما بالغ الأثر في تكريس الثقافة المالية لدى الأطفال، شريطة ألا تقتصر على مهارة «الادخار والتوفير» فحسب، كما هو متعارف عليه، فالثقافة المالية ينبغي أن تأخذ مفهوماً أشمل يتضمن كيف أُنفق المال؟ وكيف أحصل عليه؟ وكيف أنميه وأدخره؟.

جهود مشتركة

أشار الربيعان إلى أن نشر الثقافة المالية في أي مجتمع، يحتاج جهوداً مشتركة، فالجميع يستطيع أن يكون جزءاً من الحل، والبداية المثالية تكون مع والدين مصمّمين على غرس قيم المسؤولية المالية، ثم تكمل المدرسة بأن تجعل الثقافة المالية جزءاً من أنشطتها ومناهجها اللاصفية، إلى جانب الدور التوعوي للبنوك ووسائل الإعلام وغيرها.

Email