« البيان » ترصد عدداً من الحالات المنظورة في قسم الإصلاح بمحاكم دبي

«الشك المرضي» يفتك بالعلاقة بين الزوجين

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أين ذهبت؟ ومن قابلت؟ ومع من تحدثت؟ بماذا همس لك البائع؟ من زارك اليوم في غيابي؟ ولماذا وكيف واين؟ هي بالمطلق ليست اسئلة الخبر الصحفي الستة، إنما هي طوق من الاسئلة "القاتلة" التي يخنق بها بعض الازواج شركاء حياتهم، وتذكي نار الشك والريبة بينهم، فتكون الصورة بائسة في جوانب المعيشة وسط معاناة مستمرة، ربما تنتهي بمرض أو انفصال، ولكن ماذا لو لم يتوقف الامر عند طرح الاسئلة فقط، حينما يلجأ احد الزوجين الى البحث والتفتيش في المتعلقات الشخصية، فيكون "المانشيت" العريض بالمحصلة اعتذارا للطرف الثاني بعد جولة شاقة من الشك، ويعد بأنها "الأخيرة"، الا ان حليمة لا تلبث ان تعود الى عادتها القديمة، وتبقى سهام الشريك مصوبة مرة أخرى لرمي جسد العلاقة الزوجية.

خبراء تربويون واجتماعيون وموجهون أسريون يؤكدون أن "فايروس" الشك المرضي من اخطر الفيروسات التي تصيب جسد العلاقة الزوجية، ويهدده "بالموت"، ويضع عصا في دولاب استمرارية عيش الزوجين تحت سقف واحد، في وقت اجمعوا فيه ان عدواه التي قد تنتقل الى الابناء، هي أحد اسباب زيادة فرص الخلافات ونسب الطلاق، وان امكانية علاجها - نفسيا واكلينيكيا - كبيرة اذا توفرت الارادة، واذا ما تم ضخ دماء جديدة في عروق الثقة والمحبة بين الشريكين، بالتوازي مع زيادة جرعات التوعية في المجتمع بالتعاون مع جهات الاختصاص لا سيما وسائل الاعلام.

وبيَّن قسم الاصلاح الاسري في محاكم دبي أن نسبة هذا المرض من اجمالي حالات الخلافات الزوجية التي ينظرها ضمن اختصاصه، ليست ظاهرة مقلقة، "لكنها مشكلة موجودة تحتاج الى علاج وتوعية ووقاية"، فيما اظهرت الاحصاءات الخاصة به ان عدد هذه الحالات في تراجع وان نسبة الصلح فيها تصل الى نحو 40%.

الاختلاف والغيرة

"قبل التحدث عن أسباب هذا المرض لا بد لنا أن نفرق بينه وبين الغيرة" يقول الدكتور عبد العزيز الحمادي رئيس قسم الإصلاح الأسري في محاكم دبي، "فالغيرة في أساسها أو في صورتها الطبيعية وجه من وجوه الحب، وعلامة من علاماته وهي مطلوبة؛ لأنها تضفي على الحياة الزوجية طابعاً محبباً، وتشعر المرأة بأن زوجها يحرص عليها ولا يحتمل أن يقاسمه أحد فيها".

ويرى الدكتور الحمادي أن شخصية المرأة، وتصرفاتها، قد تدفع الزوج إلى الشك فيها، كالخروج من المنزل في غير أوقات العمل بدون إذنه، أو المبالغة في التبرج ولبس ملابس غير مناسبة اثناء خروجها، او نتيجة المكالمات الهاتفية السرية أو الطويلة، ثم عدم الاحتواء العاطفي له أو تغيره فجأة، زيادة على عامل آخر يوفر أرضاً خصبة للغيرة والشك وهو طبيعة عمل الزوجة، وعدد ساعات تواجدها بعيدة عن منزلها، واسباب اخرى ترجع الى تربية الزوج وتنشئته، وعدم ثقته بنفسه، وإحساسه بالدونية تجاه المرأة التي ارتبط بها.

أرقام

وبالذهاب الى احصاءات قسم الاصلاح الاسري في محاكم دبي، بخصوص اسباب الخلافات الزوجية خلال الاعوام الثلاثة الماضية، نجد ان هناك انخفاضا في عددها، عزاه الدكتور عبد العزيز الحمادي الى وعي المجتمع بأهمية الحفاظ على الحياة الزوجية والاسرة، وتعزيز جانب الثقة والمحبة بين الشريكين، وتبني وسائل الاعلام بشكل او بآخر تسليط الضوء على هذا الداء، للتحذير من عواقبه واستعراض طرق علاجه.

وبلغة الارقام فان قسم الاصلاح استقبل 43 حالة خلاف ناتج عن شك مرضي بين الزوجين في 2011، ارتفعت بواقع حالتين في 2012، ثم انخفضت الى 33 العام الماضي.

وأكد الحمادي ان هذه الاعداد دون الوضع المقلق، "لكنها موجودة للأسف"، وهي مشكلة تحتاج من خلال تكاتف جميع افراد المجتمع وجهات الاختصاص ووسائل الاعلام والخبراء والموجهين الاسريين.

آخر الدواء الكي

ويؤمن رئيس قسم التوجيه الاسري أن اختصار المسافة، وذهاب كل من الزوجين إلى حال سبيله، قد يكون خيرا وافضل من استمرار العيش في ظلال الشك والترقب والترصد، فالزوج الناجح هو الذي يستولي على قلب زوجته ويتربع على عرش مشاعرها، ولا يبقي لغيرها مكاناً فيه، و"الفاشل" هو الذي يترك بسوء تصرفه فجوات بينه وبين زوجته، فيظن أن غيره يملؤها فتسيطر عليه نزعة الشك، ويفسد عليه وعلى زوجته وأسرته الحياة، وينغص عليهم عيشهم.

صفة مشتركة

في حين يشير علي أحمد الحمودي موجه اسري في محاكم دبي الى انه وزملاءه الموجهين يتعاملون مع حالات متعددة من الازواج المصابين بهذا المرض الذي يوصلهم الى اروقة المحاكم بغرض الصلح او التفرقة، بيد أنه يؤكد ان نسبة هذه الحالات من جملة القضايا والخلافات الزوجية التي ينظرونها دون المقلقة، ويرى ان الشخص الذي يتعامل مع آخر شكاك يتعب كثيرا، ويشعر دائما بانه تحت المجهر، "فتسوء العلاقات، وتتفكك الاسر، ويحدث الطلاق، وينحرف الاطفال والمراهقون لعدم وجود الجو الاسري المناسب والقدوة الحسنة.".

ويؤكد ان مرض الشك ليس صفة مقتصرة على الرجال، بل ان بعض النساء مصابات به، ويقمن بمراقبة تصرفات الزوج، "فإن تأخر في العودة من العمل فإنه مع امرأة أخرى، وإن وجدت بقعة على ملابسه فلها تفسير غير بريء، ثم ان بعضا آخر منهن يستيقظ باكرا لتفحص سيارة الزوج بطرق وحيل عدة، لمعرفة اذا كان قد استفاق وتسلل لمقابلة امرأة أخرى او ذهب الى موعد".

انتشار

وعن مدى انتشار هذا المرض تشير الدكتورة أمل بالهول اخصائية اجتماعية الى عدم توفر إحصاءات دقيقة حول ذلك، "لان المصابين به لا يتوجهون الى العيادات النفسية، الا اذا تبينت لديهم مشكلات اخرى، لكن على العموم فإن الإحصائيات الحديثة تبين أن حوالي 0.5% الى 2.5% من عموم الناس لديهم اضطراب الشخصية الشكاكة".

اما اسبابه، فقالت: "هناك العديد من الفرضيات التي تحاول تفسير نشوء الشخصية الشكاكة، منها التفسيرات النفسية الاجتماعية، مثل استمرار التفكير بالطريقة الطفولية المبني على الاعتقاد بأن كل الأمور إما ان تكون خطأً أو صوابا، ولا يوجد حالة متوسطة بينهما، فيبدأ الشخص الإنكار اللاشعوري وهو نفي ما بنسب إليه من صفات سلبية ويسقطها على غيره من الأشخاص. ومن التفسيرات كذلك، ان الشعور بالحرمان والقسوة والخوف، يولد لدى الطفل إحساسا بالخوف من المحيط الاجتماعي مما يبعث في النفس زيادة الحذر والحيطة من الناس خصوصا عند بلوغ سن المراهقة».

وبخصوص التفسيرات العضوية للمرض بينت أن زيادة مادة الدوبامين، وهي إحدى الناقلات العصبية في الدماغ، خاصة في الفص الأمامي تجعل الشخص يميل الى العناد والتحدي والحذر الزائد والشك.

اضطراب الشخصية الشكاكة

وذكرت الاخصائية الاجتماعية ان علاج الشخصية الشكاكة يكون من خلال بناء علاقة علاجية موثوقة مع تلك الشخصية، عبر إشراكه في الخطة العلاجية، وتفسير الحساسية المفرطة، جنبا الى جنب مع استخدام الأدوية المضادة للذهان تحت إشراف طبيب متخصص، ومعالجة الأعراض الأخرى المصاحبة مثل القلق أو الاكتئاب لتخفيف معاناة المريض، زيادة على جلسات العلاج النفسي الفردي لتحسين المهارات الاجتماعية وخفض شدة الحساسية للنقد.

كما ذكرت ان العلاج يتأتى كذلك من خلال الصراحة والوضوح مع المصاب في الأقوال والأفعال، والحذر عند الاعتذار منه أو مصارحته لأنه قد يفسر ذلك بغير المقصود، وتجنب مجادلته وانتقاده خاصة أمام الناس، وعدم مواجهة تفسيراته بعنف لأنه قد ينفجر في وجه من يواجهه، وكذا احترامه وتقديره اذا كان يستحق مقابل عدم تحقيره خلاف ذلك.

الأبناء ضحية

الدكتور أحمد النجار الخبير النفسي يرى ان الثقة بين الزوجين هي عمود الأساس لحياتهما الزوجية، "و ما إن يسقط هذا العمود حتى تجد البيت يترنح، أو قد يسقط سقوطاً مدويا.". ويضيف: "تربية الابناء من الصغر على القيم والاخلاق تحصنهم من الاصابة بهذا المرض بعد الزواج، زيادة على تربية الذات والآخرين على نبذ الظن الذي حذر منه رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، قائلا: «اتقوا الظن فإن الظن أكذب الحديث»، ثم الصراحة التي يجب أن تبنى عليها الأسر تربوياً، بعكس الغموض الذي يثير الريبة ويترك المجال لتكهنات وتفسيرات قد تجلب المصائب.

كما يرى الخبير نفسه ان عدوى الشك بين الزوجين قد تتأتى من المجتمع نفسه وتفتك بصاحبها، لجهة رسم صورة نمطية غير واقعية عن الحياة الزوجية، وزرع بعض الافكار السلبية في عقول الافراد وتعميمها، حيال طبيعة المرأة والرجل، "فالنساء إذا اجتمعن قلن "الرجال خوانون"، والرجال يقولون "النساء شكاكات ما فيهن خير"»، مؤكدا ان هذه الأحكام المسبقة والمعلبة تؤثر سلبا على النظرة للجنس الآخر.ويستذكر الخبير نفسه قصة شك "عجيبة" بين زوجين، تؤكد على ضرورة تربية الابناء على الاخلاق وحسن الظن حتى لا يصابوا بعدوى الريبة من محيطهم، ويشير الى ان بطل هذه القصة هو الابن، انتهج اسلوب الوشاية بين والديه.

يقول الخبير: "من الحالات العجيبة التي عالجتها، مشكلة وقعت بين زوجين بسبب وشاية ابن بأبيه لدى أمه، وكان ذلك الابن ذو الثلاثة عشر ربيعاً ذكيا جدا، واكتشفت لاحقا انه ليس السبب الحقيقي في المشكلة، وانما الأب الذي خلق جواً من التشكيك الدائم داخل الاسرة، وكان لا ينفك عن اتهام ابنه بالشك والخطأ، ويضربه على ذلك واحيانا يتهمه في عرضه، من دون ان يسأله عن الحقيقة، الى ان اصبح ذلك الابن بشدة الضغط النفسي يعاني من قلق مستمر وضعف في تقدير الذات، نتيجة الضغط النفسي الذي كان يتعرض له من والده، الذي نقل اليه مرض الشك وصار الابن يستخدمه انتقاما منه».

وعن علاج هذه المشكلة بالتحديد، أوضح انه بدأه بالأب قبل الابن، واشار الى ان الاسرة حافظت على كيانها واستعادت لحمتها بعد مساعدتها في استعادة الثقة بين افرادها، الذين كانوا على حافة الانهيار والضياع والتشرد.

 

حالات واقعية لزوجات طلبن الطلاق من زوج شكاك

رصدت "البيان" بعض حالات الخلافات الاسرية التي نظرها قسم الاصلاح الاسري في محاكم دبي، والناجمة عن اصابة احد الزوجين بمرض الشك، وتحديدا الزوج، نستعرضها على لسان الزوجات اللواتي توجهن للقسم لطلب الطلاق "بعد استحالة استمرار الحياة الزوجية".

- تقول الاولى: "في البداية كنت سعيدة بغيرته عليّ، وكنت اعتبرها من علامات الحب الذي يكنه لي، ولكني لم اتصور أن الأمر سيتطور إلى الدرجة التي يتهمني فيها بالخيانة لمجرد أني تحدثت مع موصل طلبات الطعام من خلف الباب كي أسأله عن المتبقي له من الحساب، هذا بالرغم من أنني تجنبت كل ما قد يثير شكوكه، فلم أعد أزور صديقاتي، وهيهات هيهات لو ان هذا الامر غيَّر شيئا، بل تمادى في شكوكه أكثر واكثر حتى قررت طلب الطلاق".

- تقول أخرى: "عندما قررت الارتباط بزوجي، لم اكن اتوقع ان يوصلني الى عيادات الطب النفسي في الوقت الذي يرفض هو فيه الاعتراف بحاله، وان ينعتني بانني مثيرة للشك والريبة، وقد كان من نتائج شكه بي، نومه أمام باب المنزل الداخلي المواجه للدرج ويوصده بقفل، بينما أنام أنا وابنائي، في الدور الثاني من المنزل".

-وثالثة افادت: "تزوجت منذ خمس سنوات، وبعد انجاب المولود الاول، بدأت شكوك زوجي غير الطبيعية تزيد حينا بعد حين، واخذ يفتش هاتفي ويتتبعني بسيارته في الطريق بسيارته، وعندما يكون في العمل يوظف اشخاصا ليراقبوني، بل احياناً يطلب ان اضع الهاتف في حال الرد ليسمع كل ما أقوله، ولم يكتف بذلك بل وضع في سيارتي خلسة جهازا لاسلكيا يتصل به، لسماع حديثي، حتى وصل الامر حد التدقيق في تفاصيل ملابسي معتقداً اني ألبس للآخرين".

وتضيف الزوجة نفسها: "لقد تعبت من هذا الوضع الذي مضى عليه نحو 3 سنوات، واشعر باني في المكان الخطأ ومع الرجل الخطأ، واهلي وأقاربي صاروا على علم بحالنا وكيف ان الثقة بيننا بدأت تذوب رويدا رويدا، ومن هنا لم يبق لي منفذ الى الراحة والحرية والتخلص من هذا العذاب سوى طلب الطلاق".

 

الشك

الشك كما يعرفه اللغــويون والمختــــصون هو عكس اليقين والتثبت، وهو مصاحب للقلق وعدم الاستقرار، والشك المستمر أو المبالغ فيه أو الذي يأتي في غير محله يتحول الى مرض نفسي خطير يسمى (بارانويا)، لتصبح الحـــياة مع شريك شكاك مغامرة خطيرة غير محمودة العواقب.

فالشك بطبيعته يقتل المودة ويخنق العاطفة ويدمر الرحـــمة والاستقـــرار لا سيما النوع المبني على أوهام وظنون وتكهنات واتهامات وتزييف للحقائق، ويكون بينه وبين الاســــتقرار الـــزوجي عداوة، مقابل علاقة وثيقة وصداقة مع الطلاق.

Email