الشباب المتطرف يلجأ إليها لتشديد مواقفه المتجذرة

التكنولوجيا الرقمية تُضخّم الاتجاهات الاجتماعية

ت + ت - الحجم الطبيعي

على مدار التاريخ البشري، كان للتكنولوجيات الحديثة في مجال الاتصالات وقع كبير على الثقافة. وقد استخدم أفلاطون، في القِدم، صوت سقراط في كتاباته، ليدق جرس الإنذار بشأن مخاطر ابتكار الكتابة والقراءة، محذراً من أنها تُضعف العقل وتهدد بتدمير ذاكرة الناس.

وكذلك، كان يـُنظر إلى ابتكار الطباعة كتهديد للثقافة الأوروبية والنظام الاجتماعي والأخلاق. كما طرحت مشاعر قلق مشابهة عقب صعود الإعلام الإلكتروني، وجرى تصوير التلفزيون خاصة على أن له تأثيراً مدمراً على الحياة العامة.

ويستمر تحفظ أفلاطون هذا في التأثير في المداولات الحالية. فتعتمد العالمة الأميركية في حقل علم الأعصاب المعرفي مارياني وول، على سقراط لتأكيد وجهة نظرها بشأن التأثير المنهك للإنترنت على ما يسمى الدماغ القارئ، ولاعتقادها بأهمية تحذيراته بشأن المخاطر التي يطرحها النص المقروء، تحديداً عند التفكير في الانتقال من الطباعة إلى الوسائط الرقمية، وتأثير ذلك على أدمغة الأطفال.

وتختلط المخاوف بشأن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على أدمغة الأطفال، بروايات مثيرة للقلق بشأن قراصنة مفترسين ومتحرشين ومتصيدين وسرقة هويات واحتيال وفيروسات وغيرها، إذ توفر الإنترنت وسيلة توضيح يجري عبرها تواصل المخاوف الاجتماعية والثقافية الأوسع نطاقاً.

ولهذا السبب، يظهر تأثيرها على الثقافة في مثل هذا الوجه السلبي بالنسبة لكثيرين ليسوا على اتصال مع الإنترنت.

وفي المقابل، من المتوقع أيضاً أن تكون الشبكة العنكبوتية محط تمجيد من جانب دعاة التكنولوجيا، وأن يقال للناس إنها تحول حياتهم إلى واقع أكثر تنويراً وإبداعاً، وهذه المزاعم بأن التكنولوجيا الرقمية ستغير التعليم وطريقة عملنا ولعبنا وتفاعلنا مع بعضنا بعضا بشكل جذري، تشير إلى تأثير أكبر على ثقافتنا من تأثير ابتكار الكتابة والقراءة.

تأثير

وتشكل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أداتين فعالتين جداً يمكنهما التأثير على البشر وتشكيل سلوكهم. وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً هاماً في اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية وأشكال المقاومة، كحركات «احتلوا وول ستريت»، و«الربيع العربي»، وغيرها.

واستنتج البعض أنها تملك في عالم متشابك إمكانية تعزيز المشاركة في الحياة العامة، وإضفاء الديمقراطية عليها.

بيد أنه ما يتيح للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لعب دور بارز في الاحتجاجات الاجتماعية، ليس ما يتمتعا به من ضرورة تكنولوجية، بل أن الاستخدام المبدع لهما يشكل استجابة لتطلعات واحتياجات موجودة مسبقاً، أو على الأقل، موجودة بشكل منفصل عن هاتين الأداتين. ويجب أن ينظر إلى هذه التكنولوجيا كمصدر يمكن استخدامه من قبل حركات اجتماعية سياسية تتطلع إلى بنى تحتية للتواصل، من أجل تعزيز قضيتها.

لنأخذ مثالاً الشباب المسلم المتطرف المتجذر في الغرب. فغالباً ما تستخدم عبارة «التطرف المفاجئ» لتسليط الضوء على قوة وسائل التواصل الاجتماعي في تحويل الشباب المسلم المرتبك إلى متطرف متشدد.

ومع ذلك، هناك أدلة هامة تشير إلى أن هؤلاء الذين يتوجهون إلى الإنترنت لزيارة مواقع التواصل الخاصة بالمتشددين سبق أن مروا بعملية تجذر ذاتي. وهم منجذبون أصلاً للتطرف ويتطلعون لواسطة للتعبير عن أفكارهم المتشددة، والتفاعل مع أولئك الذين يقاسمونهم مشاعرهم.

وما تفعله تلك المواقع هو تأكيد وتعميق وتصليب تلك المشاعر التي يملكها زوارها بالأصل. تجربتهم على الإنترنت قد تشجعهم للتحرك في اتجاهات غير متوقعة، لكن أولئك طوروا مواقف تهيئهم للشروع في مثل هذه الرحلة.

فالعلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والتطرف علاقة تفاعلية ودينامية. وتوفر وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة يمكن لمشاعر موجودة مسبقاً أن تكسب عبرها المزيد من الوضوح والعبارات والمعنى. وسيلة لنوع التفاعل الذي يمكنه أن يخرج بأفكار، ورموز، وطقوس.

وهويات جديدة. وبهذا المعنى، هذه الأداة ساعدت في تحفيز ثقافة فرعية ناشئة للشباب المتطرف في الغرب، وعباراتها على الإنترنت مارست تأثيراً هاماً على خط مسار ثقافي منطلق أصلاً من خارج الإنترنت.

ثقافة

وقد أصبحت الثقافة اليومية متشابكة مع الإنترنت. ويوفر انتشار التعارف عبر الإنترنت مثالاً صارخاً عن كيفية بناء علاقات مهمة بالاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي.

وهذا وفر حلاً مؤقتاً للمشكلات الناجمة عن وضعية اجتماعية أكثر فردانية وتجزيئا. لكن شعبية اللقاءات الافتراضية أثرت بدورها كثيراً على الطريقة التي يمارس الرجال والنساء شؤونهم اليومية. وأصبح التشابك بين الافتراضي و«الحقيقي» جزء من حقيقة الثقافة المعاصرة.

وكان تأثير الإنترنت على أشده في طريقة تغييره لحياة الشباب. وترمز غرف النوم الرقمية إلى طفولة يجري التواصل فيها بشكل كبير عبر وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف المحمولة، حيث يجري بناء علاقات الصداقة بين الأقران بشكل متزايد عبر الإنترنت وعبر الرسائل النصية.

وكانت لهذه التفاعلات تأثيرات ثقافية هائلة. كان التأثير حتى على تطور اللغة. وقد ظهرت طقوس ورموز جديدة. كما كان لهذه التفاعلات تأثير هام على هوية الأشخاص، وبشكل خاص الشباب.

وكثيراً ما تشكل المبادلات عبر الوسائط هوية الناس ومكانتهم وتعززها. وما يحدث للناس عبر تفاعلاتهم على الإنترنت يعد مهماً للطريقة التي ينظرون بها إلى أنفسهم خارج الانترنت.

وكما هي الحال في التعبئة السياسية، فإن إضفاء الطابع الرقمي على الطفولة يمكن تفسيره كرد على حاجة موجودة مسبقاً لتكنولوجيات جديدة من أجل التفاعل. وقد برزت غرف النوم الرقمية نتيجة لميل متزايد نحو إعادة توطين نشاطات الأطفال من خارج المنزل الى داخله.

مخاوف بشأن صحة الأطفال وسلامتهم، أدت إلى حدود جديدة مفروضة على حرية الأطفال في استكشاف الحياة خارج المنزل. بالتالي، لم يكن الدافع الرئيسي وراءها التكنولوجيا الرقمية، بل التطور المسبق لثقافة الأطفال داخل المنزل.

رقابة

وبحماس كبير لإيجاد مساحتهم المستقلة حيث يمكن أن يختبروا ويطوروا شخصياتهم، فإن الشباب يسعون للتهرب من الرقابة الأبوية. ويحاول الشباب من خلال متابعة مشروع التنشئة الاجتماعي الذاتي هذا، إضفاء صفة شخصية على وسائل التواصل خاصتهم ليضمنوا ارتباطها بشكل مباشر باهتماماتهم.

ولم يؤد حبس الطفولة داخل المنزل إلى تعزيز الروابط بين الأجيال. بل على النقيض من ذلك، فان صعود ثقافة غرف النوم يمثل الاتجاه نحو إضفاء الخصوصية والفردانية على حياة الأسرة. ويعتبر الأطفال الإعلام الجديد وسيلة لنقل أنفسهم بعيداً عن الكبار ولمحاولة صياغة روابط مع أقرانهم.

ويسعون أيضاً الى حماية مساحة تفاعلهم من رقابة البالغين. ومن هذا المنظور، فإن تكنولوجيا الإعلام ليست شيئاً يجري تقاسمه لكن شيئا يجري خصخصته وشخصنته واستهلاكه سراً بعيداً عن مرأى البالغين.

وعبر الإنترنت، فإن التجربة الإنسانية المجزأة تنحرف عن خط مسارها وتُعطى زخماً من خلال دينامية التكنولوجيا. وهذا التضخيم والتكثيف للاتجاهات الاجتماعية يشكل التأثير المباشر للشبكة العنكبوتية على الثقافة اليومية. الأرجح أن تعمل التكنولوجيا الرقمية على تأكيد اتجاهات ثقافية سائدة، ليس هذا فحسب، بل أيضا توفير الموارد لإعادة تفسير معناها.

التلفاز

تمثل ثقافة غرف النوم النقيض لمشهد العائلة المتمحورة حول التلفزيون في غرفة واحدة. فاستخدام الإعلام أصبح أكثر خصوصية، ويلعب الأولاد دوراً مؤثراً في بناء بيئة منزل الإعلام الجديد.

 

Email